ثمة قلق في الأوساط اللبنانية من المعلومات المتداولة والتسريبات المعمّمة والتلميحات والإشارات إلى احتمالات المرحلة المقبلة ومصير أهم استحقاق في بدايتها، الاستحقاق الرئاسي، حيث ثمة من يؤكد أن هذا الاستحقاق لن يتم في موعده الدستوري. وأن البلاد ستدخل في مرحلة من الفراغ المؤسساتي أو الفوضى المؤسساتية التي سترافقها كل أشكال الفوضى والفلتان القانوني والدستوري والسياسي والمالي والاقتصادي والأمني! نعم، ثمة من يخوّف اللبنانيين عن قصد بهذا الاحتمال. وثمة من يتناول هذا الخطر عن قصد بمعنى أنه احتمال يطرح من قبل جهات لها وزنها في البلاد، وعن غير قصد أو غير انتباه، من زاوية عدم الالتزام به. إذا لم تحصل الانتخابات الرئاسية في لبنان ستكون مشكلة كبيرة. وهذا أمر طبيعي، وعلى مستوى المؤسسات مشكلة، لأن رئيس الجمهورية لن يكون في موقعه الطبيعي، وفي الوقت الطبيعي وموقع الرئاسة سيكون مهتزاً. ولا مصلحة في ذلك لا لأبناء الطائفة الكريمة التي ينتمي إليها الرئيس عادة، ولا للبنانيين عموماً، لأنه إذا كانت خصوصية البلد قد فرضت لوناً طائفياً معيناً لرئيس الجمهورية، ونحن مع المحافظة على هذه الخصوصية، فإن الرئيس في النهاية هو لكل اللبنانيين. هكذا يجب أن يكون، وهكذا يجب أن يتصرف، وهكذا يجب أن يحكم، وهكذا يكون مؤتمناً فعلاً على الدستور وعلى قسمه. لذلك الفراغ في الرئاسة مشكلة ستتفرع منها مشاكل أخرى على مستوى التلويح بتشكيل حكومة أخرى، وبغض النظر عن دستورية الإجراء أو عدمه وهو غير دستوري، لكن مفاعيله سلبية على البلاد. لأن هذا الواقع سيؤدي إلى اهتزاز كبير على مستوى أداء وعمل كل مؤسسات الدولة وتسيير شؤون ومصالح الناس، وسنكون أمام مشهد انقسام خطير لم نشهده في أصعب مراحل وظروف الحرب الأهلية التي عاشها لبنان خلال السنوات الممتدة بين 1975 و 1989 وامتداداً 1990 حيث كانت المناطق مقفلة على بعضها بعضا، وكان البلد يعيش كل أشكال الحروب. وإذا حصل الفراغ في الموقع الرئاسي، وتطورت الأمور في الاتجاه الذي ذكرت، فإن ثمة من يتحدث عن سيناريوهات أمنية ثقيلة ومرعبة. والهدف منها ترويع اللبنانيين، وإسقاط مؤسساتهم الدستورية، وخلق مناخ من الفوضى والاهتزاز، وتحويل البلد الى ساحة صراع لتصفية حسابات دول قريبة وبعيدة، تتعلق بالمحكمة الدولية وبالملف النووي الإيراني، وبممارسات وتصرفات وسياسات هذا النظام أو ذاك، وبالأوضاع في فلسطين والعراق وموازين القوى في المنطقة وباسرائيل بطبيعة الحال. ما هي مصلحة لبنان في هذا المجال؟ لا شيء. مصلحتنا وحدتنا. وتقليص مساحة حركة الآخرين على حسابنا وتوسيع هامش الحوار بين بعضنا للتفاهم على ما يمكن أن يحمي البلد ويحمينا ولو بالحدود الدنيا. وكلما مضى وقت من دون الوصول إلى مثل هذا التفاهم، كلما ضاق هامش تحرك اللبنانيين وتقلصت حرية خيارهم في بلدهم، وعلى أرضهم وحرية اتخاذ قرارهم من أجل بلدهم ومصالح أبنائهم. في هذا السياق، ليس ثمة مصلحة لأحد في حصول فراغ في رئاسة الجمهورية. بل يجب العمل لتأكيد إجراء الانتخابات في موعدها وأبواب الاتفاق مفتوحة، فيمكن الوصول إلى تفاهم حول الرئيس الجديد والحكومة التي سيشكلها في أول عهده والبيان الوزاري– القاعدة السياسية – للحكومة آخذين بعين الاعتبار أن التفاهم ينطلق من الإقرار بأن على الجميع التنازل. التنازل لمن؟ بالتأكيد للدولة، للشرعية، للمؤسسات، للدستور، للقانون، ولوحدة البلد وتنوعّه، تلك الخصوصية المميـّزة له في هذا الشرق. التسوية لا تعني خسارة في المبدأ، وإلا لما كانت تسويات في العالم لأي قضية وفي أي مجال. التسوية هي الربح المعقول والمقبول لتجنب أي خسارة غير معقولة وغير مقبولة بل خطيرة. وعندما زارنا الموفد الفرنسي جان كلود كوسران، كان السؤال المركزي الذي طرحه على الأطراف المختلفة : هل توافقون على حوار الصف الأول؟ وهل تريدون الفراغ الرئاسي أم تحبذون إجراء الانتخابات في موعدها؟ للأسف بعض الأطراف رفض حوار الصف الأول. تحت عنوان أنه لا يريد حواراً لتضييع الوقت! والسؤال هنا: لماذا وافق بعضهم هذا على الذهاب إلى "سان كلو" في فرنسا للحوار؟ هل كان ذلك لتضييع الوقت أم إيماناً بالحوار؟ ولماذا إذاً نوافق على الحوار في فرنسا وسويسرا وأي مكان ولا نوافق عليه في لبنان ونعتبر ذلك مضيعة للوقت؟ أكرر القول من المؤسف ألا يلتقي اللبنانيون في بلدهم. وإذا كان رموز الصف الأول لا يلتقون، فكيف يلتقي المواطنون أنصار هذا أو ذاك من هؤلاء الرموز؟ كيف يعملون معاً في المؤسسات العامة ويسيـّرون شؤون الناس؟ وكيف ينتجون في المؤسسات الخاصة؟ وكيف ينتجون عموماً للبنان؟ وإذا اسـتمر الوضع على حاله: لا حوار ولا رئاسة، بل فوضى وفلتان فمن يضبط الأوضاع؟ ومن يضمن عدم الإنجرار والغرق أكثر فأكثر في فتن يحذر منها ومن مخاطرها الجميع ؟ وماذا ستكون نتيجة ذلك؟ إن من لديه حساً بالمسؤولية عن الناس وقيادتهم ومصالحهم يجب أن يقرأ هذه المخاطر ويقف عندها ويقيم حساباته على أساس ضرورة تجاوزها ومنع الوصول إليها، وإلا ستكون النتيجة المنطقية سقوط الدولة، ولمصلحة من هذا السقوط وما هو البديل؟ أنا أفهم أن يخطط أحد في الخارج لمثل هذا الهدف، لأنه يكره لبنان واللبنانيين، أو يريد التلاعب بكل شيء في لبنان لضمان مصالحه كما يعتقد هو في بازار السياستين الإقليمية والدولية، وأفهم أن تخطط دولة أو جهة ما لمشروع تدميري في لبنان للانتقام منه خاصة على مستوى صيغته الفريدة في تنوع تركيبتها، وهو أمر يتناقض مع الحسابات الطائفية والمذهبية والفئوية التي ترجوها جهة ما أو تتلاقى معها، وبالتالي لا بد من ضرب صيغة لبنان وتفكيكها كما تفكر جهة أخرى. وأفهم أن يشمت بعضهم ويرتاح ويفرح بعضهم الآخر لرؤية لبنان غارقاً في الفوضى والانقسامات فيه تطاول كل شيء. لكن ما لا أفهمه هو شعار أطلقه وروّج له بعضهم في لبنان في توصيف المرحلة المقبلة: لا حرب ولا دولة. يعني كأنه يقول لن نسمح للحرب الداخلية أن تقع لكن لن تقوم الدولة أيضاً. لمصلحة من هذا الكلام؟ وهل يعني أن قيام الدولة مرتبط بالحرب، وأن الدولة لا يمكن أن تعيش إلا في ظل الحرب، أو أن ثمن عدم دفع البلاد الى الحرب هو تغييب الدولة. لمصلحة من يقول هذا الكلام ليبني دولته أو ليسيطر على كل الدولة؟ كل هذه الأجوبة والاحتمالات خطيرة ومرفوضة فلنعمل جميعاً تحت شعار: لا للحرب، نعم للدولة، ولنتفق على كل ما يوحّد وعلى الدولة التي نجدّد عقد الشراكة فيها بين بعضنا!