تسارعت الأحداث السياسية في باكستان بعد اقتحام ما يسمى بالمسجد الأحمر، أو مسجد (لال) في إسلام أباد قبل نحو عشرة أيام، والذي سقط ضحيته ما يقارب 100 قتيل حسب الإحصائيات الرسمية، وعدة مئات من القتلى، حسب إحصائيات أخرى غير رسمية. وتلا تلك العملية العسكرية، حدوث عمليات انتحارية وتفجيرات عديدة ضد القوات الحكومية الباكستانية التي توجهت إلى مناطق وزيرستان ومنطقة الحدود الشمالية الغربية، المتاخمة لأفغانستان. وقد انهت عملية مسجد (لال) والعمليات القتالية الأخرى، هدنة معلنة بين القبائل الباكستانية والحكومة المركزية في إسلام أباد كان الطرفان قد وقعا عليها في سبتمبر الماضي. وتشك الولايات المتحدة الأميركية في أن عناصر من حركة "طالبان"، وربما أيضاً من تنظيم "القاعدة"، تستخدم مناطق الحدود بين باكستان وأفغانستان كساحة استعدادات خلفية لعملياتها العسكرية ضد قوات حلف "الناتو" في أفغانستان والقوات الحكومية الأفغانية. ولذلك أهابت إدارة الرئيس جورج بوش، بالرئيس الباكستاني برويز مشرف، بالامتناع عن توقيع أي اتفاقية هدنه مع قبائل وزيرستان، ومضاعفة العمل على تمشيط تلك المنطقة بحثاً عن عناصر تخريبية. غير أن الرئيس مشرّف وجد نفسه بين السندان الأميركي والمطرقة المحلية متمثلة في زيادة التطرف السياسي في البلاد نتيجة عوامل أهمها الانفجار السكاني، وتراجع دخول الغالبية الشعبية. ولكن انحداره من خلفية عسكرية، حتّم عليه أن يضع مسألة الأمن في أولوية اهتمامات الدولة ومؤسساتها العسكرية. والحقيقة أن باكستان كانت تعاني منذ حوالي ست سنوات من حرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب، وبسبب موقعها القريب من مناطق العمليات العسكرية الأميركية في الحرب ضد "طالبان" و"القاعدة". ولذلك كان من الصعب على الرئيس مشرف أن يجد نقطة توازن بين المتطلبات الأميركية من حكومته، وبين الإبقاء على الاستقلال النسبي الذي كانت تتمتع به المناطق القبلية، والتي لم تكن لتقبل بأن تفقد هذه الميزة التي تمتعت بها لقرون طويلة، وأن تخضع بشكل مباشر وكامل لسلطة مركزية بعيدة في راولبندي. هذا التوتر تفاعل إذاً، وبشدة، مع حركات التطرف الإسلامي الذي تعاني منه باكستان، مثلما تأثر بالضغط الأميركي الخارجي. كما أن وعود الرئيس مشرف بتحويل السلطة إلى حكومة منتخبة بحلول نهاية عام 2005، لم تتحقق، مما فاقم من انقسام الطبقة السياسية الحاكمة. ومما زاد الطين بلة هو قرار حكومته بإقالة رئيس المحكمة الدستورية. وهو القرار الذي أثار ضجة كبيرة في صفوف الطبقة السياسية الحاكمة وأجج غضب قوى المعارضة، وكاد أن يعصف بحكومة مشرّف لولا التدخل الحكيم للسلطة القضائية التي وضعت حداً لمثل ذلك التصرف وما نتج عنه من أزمة حادة. وقد جاءت تصريحات نسبت إلى البيت الأبيض، وكذبت فيما بعد، مفادها أن الولايات المتحدة يمكن أن تقوم بعمليات عسكرية ضد أهداف إرهابية في باكستان... جاءت تلك التصريحات لتصب الزيت على النار، بحيث اتهم أعداء مشرف حكومته بأنها تعرض استقلال باكستان للأذى، إن هي قبلت بمثل تلك العمليات. ويبدو أن تراجع التهديد الهندي وتطبيع العلاقات مع باكستان، قد خفف من الخشية التاريخية للباكستانيين إزاء عدوهم التقليدي على الحدود الشرقية. كما أن تصدي مشرف لثقافة المدارس الدينية ومحاولة تقليصها والحد من تأثيرها، دون وجود بدائل أخرى من مدارس حديثة تستطيع استيعاب الطلاب واستقطابهم إلى العلوم الحديثة، قد جعل من الصراع بين ثقافتين، إسلامية وغربية، أمراً شبه محتوم. والعجيب أن الولايات المتحدة، الحليف التقليدي لباكستان، بمثل تلك التهديدات الموجهة ضد حليفتها، تقلل من قيمة ومكانة الحكومة المتحالفة معها في راولبندي. وقد أحس عدد من قادة المعارضة الباكستانية، أن الحكومة الأميركية ربما فقدت إيمانها بتحالفها مع مشرف، لذلك فإن قادة هذه الأحزاب ينوون تنسيق مواقفهم والضغط على الحكومة الحالية لإعلان موعد قريب للانتخابات. كما أن زعيمة المعارضة، بنازير بوتو، تتأهب للعودة إلى بلادها في سبتمبر القادم، لتقود مجموعة من الأحزاب السياسية في محاولة أخرى لاستعادة سلطتها المفقودة على يد العسكر. وتأخذ باكستان أهمية أكبر في منطقة جنوب آسيا كونها دولة نووية. والحقيقة أن وجود القنبلة النووية في باكستان هو مصدر قوة لباكستان وحلفائها في منطقة الخليج العربي، وهو أيضاً مصدر ضعف لذلك البلد. فطالما كانت هناك حركات سياسية متطرفة، فسيرى الجيش الباكستاني أنه هو الأجدر بقيادة البلاد سياسياً والمحافظة على أمنها واستقلالها الوطنيين. كما أن أي ضعف، أو حالة عدم استقرار سياسي في هذا البلد، قد تزج بالاستقرار السياسي في عموم جنوب آسيا، لاسيما في الهند وإيران، إلى حالة من السيولة وعدم الاستقرار. وطالما كانت دول الخليج العربية تطمح وتسعى إلى استقرار هذه المنطقة المتاخمة لها، لذلك فإن من مصلحة هذه البلدان أن يعود الاستقرار والحياة الديموقراطية والنمو الاقتصادي إلى هذا البلد المسلم. كما أن أي انهيار في مؤسسات السلطة في باكستان، سينعكس سلباً على منطقة الخليج العربي، بزيادة أعداد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين إلى المدن الخليجية المكتظة بالسكان. وربما صدّر هؤلاء المهاجرون إلى المدن الخليجية مشاكلهم وحملوا معهم هواجسهم ونزاعاتهم السياسية، مما يوجب على دول الخليج دعم أي تحركات سياسية تهدف إلى تهدئة الأمور وتعزيز الاستقرار في باكستان، ودعم سلطتي القضاء والبرلمان، وتحفيز كل السبل لإنجاح الحوار القائم مجدداً بين الحكومة الباكستانية، وزعماء القبائل في وزيرستان وغيرها من هذه المناطق. فيكفينا أن الوضع في العراق ملتهب إلى حد يقربه من الحرب الأهلية، والوضع في إيران على نار ساخنة، ولا يمكننا أن نتحمل مزيداً من التسخين في هذه المنطقة، والذي إن لم يعالج بكثير من الحكمة والتبصر، فقد يقود إلى حريق يعصف بإنجازات البلدان المتاخمة وبنظمها السياسية.