فاجأت الثورة الإيرانية العالم كله باندلاعها في فبراير 1979، بعد أن ظن الغرب أن إيران بقيادة الشاه التابع لأميركا، واحة استقرار وأمان. فقد تراكمت فيها محاولات سابقة، تعرض خلالها الثوار للسجون والتعذيب على أيدي "السافاك"، خاصة اثر تأميم مصدق لشركات البترول عام 1954، مما ألهم جمال عبدالناصر فكرة تأميم قناة السويس عام 1956، رغم الفشل الذي منيت به تجربة مصدق بعد هروب الشاه ثم عودته بانقلاب دبرته الولايات المتحدة ضد مصدق. وكان أول عناصر قوة الثورة الإيرانية، وجود زعامة قوية مثل الخميني الذي كان ناصر يساعده وهو لاجئ في النجف، ثم في منفاه في باريس حيث كان يخاطب الشعب الإيراني عبر شرائط مسجلة. وكان الإسلام الثوري عنصرها الثاني، أيديولوجية شعبية نابعة من تاريخ إيران، تحمل آمالها في الحرية والاستقلال والدفاع عن الهوية الوطنية، ولا خلاف عليها بين الطبقات الاجتماعية، وقد حدت الأيديولوجيات الثورية الأخرى داخلها، بما في ذلك الماركسية و"حركة تحرير إيران" و"مجاهدي خلق" و"فدائيي خلق". أما العنصر الثالث فهو ملايين الجماهير الشعبية التي نزلت الى الشوارع واستولت على الكلية الحربية رمز نظام الشاه، وسدت الطرقات. لكن الكثير من قادة إيران يعتبرون اليوم أن العرب طعنوا ثورتهم في الخلف؛ غزاها نظام صدام حسين بعد عامها الأول وهي تتحدى الولايات المتحدة، بوازع من واشنطن لإضعاف القوتين الإيرانية والعراقية، وذلك بعد عزل الجبهة الجنوبية في مصر بموجب "كامب ديفيد" عام 1978. ثم قطعت مصر علاقات السياسية مع إيران في ظل الثورة الجديدة، وهي قطيعة مستمرة منذ ثلاثين عاماً. حدث ذلك رغم أن الثورة الإيرانية هي الثورة الناصرية مركبة على الإسلام، أي الحلم الذي راود الثورة المصرية في بدايتها، وقد جسده التعاون بين "الضباط الأحرار" و"الإخوان المسلمين"، لولا الشقاق الذي وقع بين الفريقين في أزمة مارس 1954 والذي عانت منه مصر حتى الآن خلال الجمهوريات الثلاث. الولايات المتحدة وإسرائيل وضعتا كل العقبات على طريق العلاقة بين الثورة الإسلامية في إيران وبين الحركات القومية العربية، وذلك تحت عناوين جديدة في كل مرة. نظرة الثورة الإيرانية لفلسطين، تتجاوز المشروع العربي في إزالة آثار العدوان، لا فرق بين نكبة 1948 ونكسة 1967. ومازالت تتحدى الهيمنة الأميركية دفاعاً عن تخصيب اليورانيوم. بينما نرى أن إسرائيل تهدد بضرب إيران منفردة أو بالتعاون مع الولايات المتحدة. وهو ما يكشف المعيار المزدوج للغرب في التعامل مع إسرائيل.وهناك الكثيرون في العالم العربي يقفون مع الثورة الإيرانية في دفاعها عن استقلالها الوطني وتحديها قوى الهيمنة والاستعمار الجديد الذي تمثله الولايات المتحدة. والخطورة الآن على الثورة الإسلامية في إيران هي الجبهة الداخلية. إذ لا تستطيع الولايات المتحدة، ولو بالتعاون مع إسرائيل، إلحاق هزيمة عسكرية بإيران. فهذه الأخيرة تستطيع الرد عسكرياً من خلال استهداف قطع الأسطول الأميركي في الخليج. كما أن صواريخها تطال القوات الأميركية في العراق، والقواعد والمطارات العسكرية الإسرائيلية. وحينئذ قد تحدث هبة في العالم العربي، كما حدثت مع ناصر أثناء العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس عام 1956، وتفجير أنابيب النفط في سوريا، واندلاع الثورات العربية بعد ذلك في العراق عام 1958، وفي اليمن عام 1964، وفي ليبيا عام 1969. تستطيع الولايات المتحدة اللعب في الجبهة الداخلية الإيرانية، والتآمر على الثورة الإسلامية من الداخل، وليس العدوان عليها بشكل علني ومباشر من الخارج. تستطيع اللعب على القلق الاجتماعي، كما أظهره توزيع البنزين بالبطاقات في دولة من أكبر الدول المصدرة للنفط. تستطيع اللعب على التفاوت الشديد بين الفقراء والأغنياء، وعلى المشاكل الاجتماعية كانتشار البطالة ونقص الإسكان. وقد خسر التيار الليبرالي الانتخابات الأخيرة، لأن الحرية لم تشفعها العدالة الاجتماعية، وحوار الحضارات لم يقرن بتحدي قوى الهيمنة. والأخطر من القلاقل الاجتماعية، الحريات العامة، وضيق الناس بالتزمت الديني والتشدد في السلوك اليومي، والتدخل في حياة الأفراد الشخصية. فمازال التناقض الرئيسي في الثورة الإسلامية هو قيامها على أساس ديني إشراقي محافظ، يمثله "صدر الدين الشيرازي" الذي ينتسب الإمام الخميني إليه ويتتلمذ عليه، وليس علي شريعتي ممثل اليسار الإسلامي قبل اندلاع الثورة، الإسلام الاشتراكي التقدمي. ويتضمن ذلك اللعب على القوميات الفارسية والأذرية وغيرها التي تكون شعب إيران، والمذهبية والطائفية، سنة وشيعة، الممتدة في الجبهة الشرقية في الوطن العربي وفي الإسلام الآسيوي (إيران وباكستان). لقد تم القضاء على الثورة المصرية ليس بالعدوان الخارجي عام 1967، ففي ذلك العام تم تحطيم المدمرة "إيلات"، وأُعيد بناء الجيش، وقامت حرب الاستنزاف بداية من العام التالي، ثم قامت حرب التحرير في أكتوبر 1973... بل قُضي على ثورة يوليو بسبب الانقلاب الداخلي في 15 مايو 1971، أي من الجبهة الداخلية وبنفس الرجال، وتحولت الثورة إلى ثورة مضادة، من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن التعاون مع الاتحاد السوفييتي إلى التبعية للولايات المتحدة، ومن القطاع العام إلى الخصخصة، ومن مجانية التعليم إلى الحاجات الخاصة، ومن القومية العربية إلى القطرية. إن التعاون الإقليمي بين مصر وإيران وتركيا، يقلل المخاطر التي تواجهها الدول الثلاث، خاصة إذا ما قامت بتعزيز الديموقراطية والتعددية الحزبية، وبالدفاع عن استقلالها الوطني وإرادتها الوطنية، وتشجيع "الإسلام المستنير". خاصة أن مصر مازالت "الدولة القاعدة" في محيطها العربي، إذ يجد ما يحدث فيها ردود فعل له في مائتين وخمسين مليون عربي. إن مجموع سكان الدول الثلاث يزيد على مائتي مليون نسمة. أما مواردها الطبيعية وإنتاجها الصناعي وتراثها الإسلامي المشترك، فيجعلها تجمعاً إقليمياً مركزياً قادراً على تجميع دول الجوار العربية والإسلامية، توسيعاً لمفهوم القومية العربية. من السهل مواجهة التحديات الخارجية وتجميع الشعوب حول أهداف وطنية، كما حدث إبان حركات التحرر الوطني، ومن الصعب الوقوف أمام المخاطر الداخلية كما حدث بعد حركات التحرر الوطني والنزاع على السلطة بين رفاق الأمس، إذ إن جهاد النفس أصعب من جهاد العدو. لقد أتت الثروة والثورة للعرب والمسلمين، لكنهم لم يكونوا قد استعدوا لها بعد، فبددوا الثروة وانقلبوا على الثورة. وفي التاريخ ضحى يهوذا بالسيد المسيح في مواجهة اليهود والرومان.