بعد سيل المؤلفات التي غمرت ساحتنا الثقافية منذ أربعينيات القرن الماضي، وما أثارته من قضايا حول الجانب السياسي للإسلام أو نظريته في الحكم ومفهوم السلطة ونظام الخلافة والشورى... وغيرها من القضايا التي طرقت أبواب سوق القراءة بقوة في حينه، ساد الاعتقاد بأنه لم يعد من مجال لقول جديد في هذا المضمار أو لإبداع نظرات أخرى من طوب الركام القائم وخارج معماره النظري العام. وهو اعتقاد فيه درجة من الصحة، لكنه على ما يبدو لم يمنع مؤلف كتاب "الفكر السياسي العربي الإسلامي"، والذي نقدم عرضاً ملخصاً له فيما يلي، من خوض تجربته في إنجاز كتاب تحت عنوان عريض على تلك الشاكلة، ويحمل شبهة التكرار، ومحفوف بمخاطر الرتابة المدرسية وخفة السجال الأيديولوجي في آن معاً! وهي محاذير ربما دفعت الخشية منها، مؤلف الكتاب –الدكتور محمد عوض الهزايمة- إلى الإسهاب في عرض التفاصيل والعناصر الجزئية لجوانب موضوعه، ومن ثم جاء كتابه في مجلدين تجاوز حجمهما معاً سبع مئة صفحة. وقد تناول أولهما الجانب الأيديولوجي، بينما ركز ثانيهما على الجانب التطبيقي في تجربة المسلمين السياسية خلال الحقب الأولى لتاريخهم. فعن السياسة والدولة، يقول المؤلف إن الإسلام سبق إلى وضع التنظيمات والمصطلحات والأدوات السياسية... التي تضاهي جوهر الدولة الحديثة، ثم يبين الكيفية التي تكونت بها الدولة الإسلامية الأولى في عهد النبوة، إذ جاءت كنتيجة حتمية للدور الذي قام به الرسول صلى الله عليه وسلم في نشر الرسالة وإقامة قواعد المجتمع الجديد، بما يقتضيه من أطر لإدارة أمور دينه ودنياه. فبوصوله إلى "يثرب"، قامت "أول حكومة إسلامية" في تاريخ العالم، تسير وفق أحكام القرآن الكريم وما كان ينزل به الوحي إلى الرسول. وهي دولة شعبها المهاجرون والأنصار ومن تعاهد معهما، أما أرضها فهي أرض المدينة المنورة ذاتها والتي امتدت وفقاً للتسلسل الزمني لجهود الرسول وصحبه. وعن ماهية السياسة من منظور إسلامي، يعرض المؤلف كثيراً من التعريفات التي وضعها لها الفقهاء، وهي كما يرى تلتقي في أغلبها عند "قيادة الأمة وتنظيم سلطاتها بما يحقق مصالح الدين والدنيا في ظل منهج الإسلام والسوابق السياسية التي لا تتعارض مع المبادئ الإسلامية". لكن ما هو الفكر السياسي العربي الإسلامي، ذلك العنوان الفضفاض الذي اختاره المؤلف لكتابه؟ لعل مما يفاجئ قارئ هذا الكتاب، كونه يخلو من أي محاولة لتحديد المعنى أو المجال الدلالي لذلك التعبير، بل نجد أن المؤلف يكتفي بأسهل الطرق وآمنها، أي بالحديث عن مصادر الفكر السياسي العربي الإسلامي، وعن ثوابته. فالنسبة للمصادر المباشرة، فهي تشمل مصادر أصلية (القرآن والسنة) ومصادر تبعية (الإجماع والقياس والعرف والاستصحاب والمصالح المرسلة ومذهب الصحابي وشرع من قبلنا)، ومصادر غير مباشرة هي تفاسير القرآن وشروح الحديث وكتب الفقه وأصوله وأبواب الإمامة في كتب علم الكلام وخطب الخلفاء الراشدين. وإلى ذلك يعتبر المؤلف أن الفكر العربي الإسلامي "قائم على ثوابت لا تتغير ومرتكزات لا تتبدل"، ومن ثوابته أن "السيادة لشرع الله"، وأن "السلطة للأمة، وأن "للأمة حاكم واحد"، وأخيراً "وجوب الشورى". أما المرتكزات فهي العدل والطاعة والمساواة والحرية. ويعقد المؤلف باباً خاصاً للخلافة، فيعرف بها ويشرح مشروعيتها ويذكر علاماتها الخاصة ومستلزمات قيامها. فالخلافة هي ذلك النظام الذي اختاره أكابر الصحابة وقادة المسلمين بعد وفاة الرسول، معتمدين في اختيارهم على ما جاء مجملاً في القرآن والسنة النبوية، مع مراعاة الظروف السياسية للمجتمع الإسلامي في عصره. كما يتطرق إلى المؤسسات السياسية لدولة الخلافة؛ مثل "الوزارة" و"الكتابة" و"الحجابة"... وكذلك لبعض مؤسساتها الإدارية مثل "الإمارة" و"الدواوين" و"البريد" و"الشرطة"... ويغوص الكتاب في تفاصيل اللوحة الأيديولوجية لمفكري الإسلام خلال القرون الوسطى؛ مثل ابن أبي الربيع والفارابي والماوردي وابن حزم والطوسي والجويني والغزالي والطرطوشي وابن تومرت والميموني وابن تيمية وابن خلدون... مبرزاً تصوراتهم للدولة وأركانها ونماذجها ولطبيعة السلطة ومناهج الحكم والإدارة، وحول نظام الإمامة والسلطان المطاع والسياسة الشرعية ودولة العصبية... كما يستعرض الأفكار السياسية لعدد من مفكري العصر الحديث؛ مثل رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا وعبدالحميد بن باديس ومصطفى السباعي... وحين نصل الجزء الثاني من الكتاب، نجده على قسمين؛ أولهما يتناول التنظيمات الإسلامية، كالنظام العقدي، والنظام التعبدي، والنظام الاجتماعي، والنظام الأخلاقي، ونظام الحكم، والتنظيم الجهادي، والنظام الاقتصادي، ونظام التوريث، والنظام القضائي، ونظام العقوبات. بينما يتناول القسم الثاني أهم التحديات الفكرية المعاصرة التي تواجه الفكر العربي الإسلامي، وفي ذلك الباب يتعرض المؤلف لموضوعات كالاستعمار التقليدي ومواريثه الثقافية والسياسية، إضافة إلى الصهيونية كتحد استيطاني وأمني وسياسي وفكري أيضاً. ثم يلخص التحديات الفكرية في ثلاثة محاور رئيسية: الغزو الثقافي، التبشير، والاستشراق. لكنه يضيف إليها "تحديات التغريب والتبعية"، وهي في نظره ثلاثة أيضاً؛ العلمانية والعولمة و"الدعوات الهدامة"! وأخيراً يختم المؤلف كتابه، وقائمة تحدياته أيضاً، بفصل عن "التحدي الحضاري"، من دون أن يوضح مفهومه لذلك المصطلح، ليستغرقه استعراض خصائص الحضارة الإسلامية، على طريقة أشبه بمنهج التكرار وأسلوب التلقين المدرسي! محمد ولد المنى الكتاب: الفكر السياسي العربي الإسلامي المؤلف: د. محمد عوض الهزايمة الناشر: دار الحامد للنشر والتوزيع تاريخ النشر: 2007