لأكثر من سبب، اكتسبت الانتخابات التركية يوم الأحد الماضي أهمية خاصة، تتعدى في مغزاها هذا البلد الكبير. أولاً: أعادت هذه الانتخابات المصداقية للعملية الانتخابية على المستوى الإقليمي وحتى العالمي. فمن المعروف أن هناك جدلاً كبيراً في الأدب العالمي المتزايد عن التحول الديمقراطي فيما يتعلق بأهمية الانتخابات كمؤشر على الديمقراطية، على أساس أن كثيراً من هذه الانتخابات لا تشهد مشاركة كبيرة، وبالتالي لا تعبر عن إرادة شعبية، أو أن بعض هذه الانتخابات تكون محسومة النتائج قبل حدوثها. في الحالة التركية، شارك في هذه الانتخابات ما بين 80% و85% ممن لهم حق التصويت، وهي نسبة عالية جداً بأي مقياس، حتى بالنسبة للدول الغربية ذات التاريخ الديمقراطي الطويل. وبالمقارنة مع دول شرق أوسطية أخرى -مصر- ففي التصويت على التعديلات الدستورية في شهر أبريل الماضي، قالت المصادر الحكومية إن نسبة المشاركة في التصويت تراوحت بين 23% و27%، بينما أصرت بعض أحزاب المعارضة على أن هذه النسبة لم تتعدّ 10%. ثانياً: على الرغم من حساسية هذه الانتخابات وأهميتها بالنسبة لمستقبل النظام السياسي التركي، فإنها جرت في جو عام يحترم القواعد والقوانين، وبالتالي أثبتت أن الوسيلة الانتخابية هي إحدى الوسائل الناجحة لحل الخلافات السياسية وتمكين النظم السياسية المختلفة من تجاوز مرحلة عنق الزجاجة والأزمة التي تواجهها من وقت لآخر. فمن المعروف أن هذه الانتخابات جرت مبكرة بحوالى ثلاثة شهور ونصف عن موعدها، وذلك بسبب عدم الاتفاق على طريقة انتخاب رئيس الجمهورية وقطع الطريق على "جول" -وزير الخارجية الذي ينتمي للتيار الإسلامي. والكثير منا يتذكر المظاهرات الضخمة التي جابت المدن التركية الكبيرة وأعلامها الحمراء، والتي نظمها التيار العلماني بتأييد من القوات المسلحة التركية. وقد تكون ضخامة هذه الجموع المحتشدة، وبالذات إبرازها إعلامياً- خاصة في الدول الغربية- من ضمن أسباب دهشة بعضهم هنا في أميركا الشمالية، لفوز حزب "العدالة والتنمية". وفي الواقع، فإن المتردد على تركيا -وخاصة مناطقها الريفية بسيداتها ذوات اللبس الزاهي ولكن الحجاب أيضاً- لم يكن عنده أي شك في نتيجة الانتخابات، وقد يكون متردداً بعض الشيء بالنسبة لعدد مقاعد الفوز، ولكن متأكداً من فوز حزب "العدالة والتنمية" ليس فقط بسبب توجهه الإسلامي، وإصرار زوجة رئيس الوزراء على الاحتفاظ بالحجاب فوق رأسها كرمز للهوية، رغم اعتراضات جزء كبير من الجماعة السياسية، ولكن فوز الحزب يرجع أيضاً إلى أنه أثبت قدرته على إدارة الدولة والمجتمع التركيين بكفاءة ونزاهة. ثالثاً: إذا استمر هذا النموذج التركي في مجراه الطبيعي ومن دون تدخل -خاصة من القوات المسلحة، حامية دولة أتاتورك والتوجه العلماني المفرط- فقد يعطينا هذا مثلاً لعلاقة مختلفة بين نمط من الإسلامي السياسي من ناحية وبين الغرب، فلا يزال الغرب متخوفاً من وصول هذا الإسلامي السياسي إلى الحكم، واعتقاده أنه يستغل العملية الانتخابية للوصول إلى السلطة ثم تتوقف الديمقراطية، ولذلك تحاول الدول الغربية إجهاض وصول الإسلاميين إلى السلطة بأي وسيلة. وأشهر مثال على ذلك، هو ما حدث في الجزائر في سنة 1991، عندما قام جنرالات الجيش الجزائري بمنع الجولة الثانية من الانتخابات التي كانت ستسمح لـ"جبهة الإنقاذ الإسلامية" بالوصول إلى الحكم. وكانت النتيجة حرباً أهلية قاسية كلفت الجزائر -حسب قول الرئيس بوتفليقة- 150 ألف قتيل، بالإضافة بالطبع، إلى النتائج الاقتصادية والنفسية المدمرة لهذه الحرب. رابعاً: بالرغم من خطاب أردوجان المعتدل والمتوازن بعد حصول حزبه على هذا الفوز الساحق (340 مقعداً من 550)، فإن الاختلاف الجذري بين الإسلاميين والعلمانيين لم يُسدل الستار عليه بعد، فبالرغم من انتهاء جولة هذه الانتخابات بطريقة حاسمة لصالح الحزب الإسلامي الحاكم، فهناك جولات أخرى قادمة، وفي مقدمتها طريقة انتخاب رئيس الجمهورية، ومما سيسمح للحزب الحاكم بالسيطرة على الوزارة ورئاسة الجمهورية في آن واحد. ألم نقل إن هذه الانتخابات لها أهمية خاصة تتعدى حدود تركيا؟