كل دولة من دول الخليج العربي لها خصوصياتها ولها مشاكلها ولها توجهاتها فيما يتعلق بالشأن العام الداخلي أو الخارجي. فهناك دول لديها مشاكل تتعلق بالأقليات المعزولة على أساس مذهبي. وهناك دول فيها مشاكل تتعلق بمنح الجنسية أو عدم منحها، وفي ذات الوقت توجد دول ليست لديها أية مشاكل في منح الجنسية، بحيث أصبح منح الجنسية –رغم أنه أمر سيادي– مثل منح رخصة السياقة بل مثل منح الجنسية في بعض دول أميركا اللاتينية. دول لديها عمالة سائبة، ودول تعاني من كثرة المشروعات والمؤسسات، ولكن ليس لخدمة المواطنين. بل إن بعض هذه المؤسسات تجتذب موظفين من الخارج وتمنحهم أعلى الرواتب وتضع شروطاً تعجيزية أمام المواطنين. ولعلنا نستذكر هنا سياسات طفت على السطح قبل عشرين عاماً، وهي توطين الوظائف. وظهرت مصطلحات جديدة في أدبياتنا المحلية مثل: السَعودة، البحرنة، التقطير، التعمين... إلخ! لكن هذه المصطلحات تلاشت ولم يعد لها ذكر. المشكلة الكبرى التي قد تشترك فيها معظم دول الخليج هي إحالة المواطنين المؤهلين للتقاعد قبل السن القانوني، وهم في سن العطاء. أو وضع مواطنين بعينهم من المثقفين أو المبدعين في لائحة المحرومين من التوظيف، رغم أنهم يحملون مؤهلات عليا في مجال تخصصاتهم. وقد لاحظتُ هذه المشكلة في أكثر من بلد خليجي. والسبب في رأيي هو ضيق الأفق، ودأبُ هذه الدول على سماع الكلام المُنمق المُمَجد المدّاح، لذلك ما أن يطلّ أحد المصلحين برأسه –على المجتمع– بفكرة جديدة تكشف عيباً في هذا الجهاز أو تلك المؤسسة، حتى تقوم الدنيا وتتم محاصرته بشتى الطرق. فأولاً يُقصى من عمله ويودع المنزل كي يتحطم ويسير باتجاه الموت البطيء ولا أحد يسأل عنه! ثانياً يتم تعميم اسمه على كل المؤسسات لترفض توظيفه ولو كانت بحاجة إلى خبراته. وهذه المؤسسات توظف خبرات متواضعة من الخارج وتكلفها الملايين! ثالثاً: يُحرم هذا المواطن من حرية التعبير عن مشكلته في وسائل الإعلام المحلية، وإن جاهر بها في إعلام خارجي زاد ذلك من "الغضبة المُضرية" عليه، وقد تتعقد حياته أكثر! وفي المجال الإعلامي بالذات لدينا طاقات محلية خبرت العمل الإعلامي ودرسته في أرقى الجامعات. كما أدّت هذه الطاقات خدمات جليلة لدولها، وبدلاً من الاستفادة من هذه الطاقات في المؤسسات الجديدة التي تنشئها الدول –ولو كمستشارين– يتم إقصاؤهم وإيداعهم التقاعد بلا رحمة وبلا أدنى موجبات حقوق الإنسان! في ذات الوقت يتم تسليم أجهزة خطيرة مثل الإذاعة والتلفزيون إلى مواطنين بعيدين عن المجال الإعلامي، وبعضهم لا يعرف قواعد اللغة العربية ولا يفرق بين "سارتر" و"رونالدو"، أو بين "قناة السويس" وقناة "استاكيوز"، وبعضهم لا يلاحظ وهو يتابع المذيعات وهن يمارسن أحطّ الإساءة لقواعد اللغة أو قواعد المهنة الإعلامية، ولا يرفع الهاتف كي يصحح ما اقترفنه من أخطاء! ففاقد الشيء لا يعطيه. وللأسف فإن بعض دول المنطقة لا تفرق بين الالتزام المهني وتصرفات "أهل الثقة" الذين يكونون غير جديرين بتلك الثقة! بل ويكتشفونهم بعد خراب البصرة! وفي ذات الوقت، هنالك دول خليجية على النقيض من ذلك، فنجدها لا تفرّط في أية موهبة أو خبرة. بل نلاحظ وجود مسؤولين إعلاميين تجاوزوا سن التقاعد وما يزالون في مناصبهم ؛لأن الدولة تثق في خبراتهم وتعطيهم الشأن الإعلامي، في الوقت الذي تجهّز الدولة فريق الصف الثاني لتسلم زمام الأمور بعد حين، وهذه سياسة حكيمة نأمل تعميمها على كل دول الخليج. بل الملاحظ أن بعض المؤسسات الإعلامية الخاصة في دول الخليج تستفيد من الطاقات الوطنية وتجتذبها وتجزل لها العطاء، وتقوم هذه المؤسسة بتكريم الإعلاميين. ونحن نسمع يومياً عن موظفين -في مؤسسات إعلامية خليجية لا يمتلكون نصف مؤهلات وخبرات المواطنين- نجدهم يرتكبون أخطاء قاتلة في المجال الإعلامي، لكن الإدارة السامية "راضية" عنهم، بل ولا تحرك ساكناً لمحاسبتهم، رغم أنهم يتقاضون أضعاف ما يتقاضاه المواطن "المركون" في منزله. وحين تتم استضافتنا في قنوات مهمة، نجد المذيعة لا تستطيع قراءة نصف سطر من السؤال دون اللجوء إلى جهاز القراءة على الكاميرا، بل شهدت شخصياً لقاءً مع مذيعة في محطة عربية كانت تقرأ الأسئلة من يافطات بحجم متر في متر، مما أربك الضيوف الذين معها؛ وكانت تناقش موضوع مجلس التعاون من دون أن تدرسه جيداً فظهرت الحلقة بائسة وميتة! فهل نُلام عندما نتحدث عن المهنية؟ هل نُلام عندما نأمل لمؤسساتنا النجاح وعدم الوقوع في فخاخ بعض الضعفاء الذين يصورون للمسؤول أنهم "فطاحل" هذا الزمن! وعند أول تجربة يفشلون، لكن من هو المسؤول الذي يكتشف أخطاءهم؟ تلك هي المشكلة! نحن أمام مشكلة تتوسع دوائرها مع الزمن، لكن لا أحد يُحاسب الآخرين على مستوى الأداء أو حجم المصروفات التي تفرغ من خزينة الدولة على توجهات إعلامية غاية في السطحية والانفلات والخروج على المهنية الإعلامية! نحن لا نود التباكي على الواقع المرير. كما لا نحسد أو نلوم الشباب الذين تلوح لهم الفرصة هنا وهناك من دون أن يخبروا العمل الإعلامي أو يعانوا ما عاناه الجيل السابق بل ومن دون أن تتاح لهم الفرصة لدراسة هذا العلم الواسع والدقيق. لكننا نود أن يكون الناتج جيداً ومفيداً للمتلقين. نحن نعتقد بأن الحل المناسب للاستفادة من الكفاءات الخليجية المؤهلة المُعَطلة في بعض الدول الخليجية هو قيام إحدى المؤسسات بحصر تلك الكفاءات ووضعها على شبكة الإنترنت مع السِيَر الذاتية لها ونوعية تخصصاتها، لتكون في متناول الدول والمؤسسات الأخرى، وبذلك تتم الاستفادة من تلك الطاقات المؤهلة والمُعطلة في بلدها لسبب أو لآخر. وقد يكون من المفيد أن يعمل أكاديمي سعودي في جامعة إماراتية، ويعمل إعلامي قطري في مؤسسة إعلامية كويتية، ويعمل طبيب إماراتي في مستشفى عماني... وهكذا! القضية هنا أن المواطن المؤهل "المغضوب عليه" ليس بالضرورة سيئاً أو مجرماً أو فاشلاً! بل قد يكون حظه العاثر وضعه في عين أحد المقربين فشوّهَ سمعته لدى "الكبار"، فتم وضعه في لائحة المغضوب عليهم. الإشكالية في إنسان الخليج أنه لم يتعود أن يحمل أمتعته الشخصية على ظهره ويغادر جغرافيته وإن كانت هذه الجغرافية تلهب جسده ليل نهار! لقد تعود على العز والدلال، لكن يبدو أن وقت العز والدلال قد تغيّر، ولابد للمواطن أن يواجه مع حقيقة جديدة تحتم عليه أن يغيّر ثقافته، ويترك مصطلحات العيب والكرامة والأنفة الزائفة. بودنا لو يقوم مركز خليجي للأبحاث بحصر الكفاءات الخليجية المؤهلة والمعطلة ووضعها على موقعه كي تستفيد منها المؤسسات الخليجية الأخرى.