تصاعدت في المرحلة الأخيرة دعوات للإصلاح السياسي في العالم العربي. وهذا الإصلاح يتبنى شعار "التحول الديمقراطي" والذي يُقصدُ به في علم السياسة الانتقال من النظام السلطوي أياً كان نمطه إلى نظام ليبرالي يؤمن بالديمقراطية بمعالمها المعروفة، وأبرزها تداول السلطة والانتخابات الدورية على كافة المستويات، بالإضافة إلى ضمانات لحرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم. والدعوة للإصلاح السياسي اجتمعت تحت شعاراتها فئات شتى من المثقفين العرب، الذين أجمعوا على ضرورة التحول الديمقراطي وإن كانت كل فئة من فئات المثقفين تحاول أن تعطي لهذا التحول معاني ودلالات معينة، وفق الانتماءات الإيديولوجية المتعددة لأصحابها. وقد برز هذا الإجماع على أهمية التحول الديمقراطي في "مؤتمر الإصلاح العربي" الذي عقدته "مكتبة الإسكندرية" في مارس 2004 وضم نخبة ممثلة للمفكرين والسياسيين العرب في المشرق والمغرب والخليج، بالإضافة إلى ممثلي مؤسسات المجتمع المدني. وقد حرص المؤتمر على تحديد آليات التنفيذ؛ وأبرزها إنشاء "منتدى الإصلاح العربي"، وتأسيس "مرصد الإصلاح العربي" بهدف وضع مؤشرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، لقياس التقدم في الإصلاح، وذلك بإصدار تقرير سنوي يتضمن تجليات التطور في المجال الديمقراطي. والواقع أن التأمل العميق في أحوال المجتمع العربي المعاصر، يؤدي بنا إلى نتيجة مهمة، وهي أن الإصلاح السياسي لا يمكن أن يتم بغير إصلاح ثقافي شامل. فهناك أزمة ثقافية في المجتمع العربي ظهرت بوادرها منذ عقود، وانعقدت بصددها مؤتمرات وندوات شتى. وإذا أردنا أن نضع توصيفاً دقيقاً لهذه الأزمة، قلنا إنها تتمثل أساساً في التوجهات المتناقضة للنخب السياسية والفكرية العربية من جانب، وشيوع الوعي الجماهيري المشتت من جانب آخر. فكأن الأزمة طالت النخبة والجماهير في الوقت نفسه! ونعني بالتوجهات المتناقضة السائدة بين النخب السياسية والفكرية العربية، وجود صراع حاد في رؤى العالم بين هذه النخب، يبدو بصورة تنم عن تباعد المواقف، والعجز عن الاتفاق على تشخيص موحد للأزمة العربية، واستراتيجية محددة للخروج منها. ولعل سر التناقض في المواقف بالنسبة للنخب السياسية العربية يرد إلى أن بعض التيارات اليسارية والقومية مازالت مصرة على إعادة إنتاج خطابها القديم الذي وإن كان قد ساد في ستينيات القرن الماضي فإنه لم يعد بأي معيار صالحاً في عالم اليوم، والذي تهيمن عليه عملية العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية. وبغض النظر عن سلامة المنطلقات الإيديولوجية للتيار اليساري أو القومي، فهناك حاجة شديدة لأنصار كل تيار على اتساع الوطن العربي لكي يعيدوا صياغة مشروعهم في ظل الظروف الجديدة في عالم اليوم. ونحن أول من يدرك صعوبة عملية إعادة صياغة المشاريع الإيديولوجية، غير أنها ضرورة لابد من تحقيقها. ولدينا في العالم تجارب متعددة في هذا المجال، خصوصاً بالنسبة للتيار الشيوعي الأوروبي الذي حاول إعادة صياغة مشروعه بعد بروز الجانب الديكتاتوري في التجربة السوفييتية، ومن هنا نشأ تيار الشيوعية الأوروبية التي حاولت تكييف أوضاعها من خلال الاشتراك في البرلمانات الأوروبية، متخليةً عن استراتيجية الثورة الاشتراكية التقليدية. لكن إعادة صياغة المشاريع الإيديولوجية تحتاج أول ما تحتاج إلى شجاعة قصوى في مجال النقد الذاتي، وإلى خيال سياسي خلاق قادر على صياغة بدائل جديدة للسياسات القديمة. وفى هذا المجال حاولت بعض التيارات الماركسية العربية، في لبنان خصوصاً، القيام بعملية إعادة الصياغة، عبر نقد ذاتي رشيد ومحاولات لطرق أبواب جديدة، بما يتفق مع تحولات النظام العالمي، مع الحفاظ في الوقت نفسه على القيم الأساسية للمشروع. وأهمها التركيز على الحاجات الأساسية للجماهير العريضة في مجالي الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية في الوقت نفسه. وقد بذل أنصار الاتجاه القومي جهوداً مماثلة، وإن لم تكتمل بعد في مجال النقد الذاتي، سعياً لإعادة صياغة المشروع القومي، لكن هذه المحاولات غلب عليها الجانب السياسي أكثر من الإبداع الفكري الجديد في مجال الخطاب القومي. غير أن التيار الليبرالي العربي الذي خفت صوته في مرحلة الخمسينيات والستينيات، تحت وطأة ثقل الخطاب الاشتراكي والقومي، والذي عاد في العقد الأخير وارتفع صوته، يتسم بكونه أقل التيارات السياسية العربية إبداعاً في المجال الفكري. فليست هناك أعمال فكرية ذات بال أصدرها أنصار هذا التيار، إضافة إلى أن عدداً كبيراً من أنصار هذا التيار قنعوا بالانضواء تحت شعارات "الليبرالية الجديدة" التي تقودها وتروج لسياساتها الولايات المتحدة الأميركية. وهذه السياسات تحديداً والتي تتبناها حكومات عربية شتى ممن خضعت لضغوط المؤسسات الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين)، ليست ذات شعبية، بل هي هدف لنضالات نخبوية وجماهيرية شتى ضدها، لأنها في التحليل الأخير مضادة لمصالح الجماهير العريضة، وقد صممت لكي تفيد النخب الرأسمالية من خلال عمليات تراكم رأسمالي، تتم في أحيان كثيرة من خلال قنوات متشعبة للفساد. وإذا كان هذا هو حال النخب السياسية والفكرية، خصوصاً أنصار التيارات اليسارية والقومية، فإن أنصار التيارات الإسلامية المتعددة، سواء الذين يطالبون بتغيير أنظمة الحكم العربية بصورة سلمية حتى تتطابق مع الشريعة الإسلامية، أو الذين يعملون من خلال الإرهاب الصريح لقلبها، فهم الذين يؤججون الأزمة السياسية العربية. ويرد ذلك في الواقع إلى أن غالبية التيارات والحركات الإسلامية تصدر عن رؤى مغلقة للعالم، وتقوم على أساس تكفير الآخرين، سواء كانوا من أنصار التيارات السياسية الأخرى أم كانوا ممثلين للأنظمة الحاكمة. وتعلو دعوات التحريم بالنسبة لممارسات اجتماعية وثقافية مشروعة، بالإضافة إلى إنتاجهم لفتاوى دينية تتدخل بغير علم في مجالات الاقتصاد والثقافة والعلوم. والواقع أن حال الجماهير العربية التي تنتشر فيها الأمية بنسبة 40% على مستوى الوطن العربي، تدل دلالة قاطعة على أن الإصلاح السياسي يكاد يكون مستحيلاً بغير إصلاح ثقافي جذري في مجال محو الأمية. فالوعي الاجتماعي للجماهير العربية متدن للغاية، ما يجعل أعداداً كبيرة تنساق وراء دعوات جاهلة، وتنخرط في إطار جماعات إسلامية متشددة، تؤمن باستخدام العنف وسيلة للتغيير الاجتماعي. وهناك أسباب متعددة لظاهرة الوعي الجماهيري المتخلف، في مقدمتها سياسات النظم الحاكمة ذاتها، والتي تحاول السيطرة على حركة الجماهير بوسائل قمعية مباشرة وغير مباشرة. غير أن من بين الأسباب المهمة تقاعس المثقفين العرب عن صياغة خطاب تنويري جماهيري يمكن أن يصل للناس، وإن كانت حركة المثقفين بين الجماهير مقيدة في الواقع، بحكم السياسات الأمنية العربية والتي تضع مصلحة النظام السياسي القائم فوق كل مصلحة. وهكذا فنحن في مواجهة مشكلة التوجهات المتناقضة للنخب السياسية والفكرية من ناحية، والوعي الجماهيري المشتت من ناحية أخرى.