غراهام أليسون لنتخيل ديمقراطية مسلمة علمانية مزدهرة ومستقرة في الشرق الأوسط... الواقع أن الحلم بأمر من هذا القبيل كان من أكثر ما ينشده الرئيس بوش ضمن أهدافه المعلنة من وراء الحرب في العراق. غير أن الطريقة التي اتبعتها الإدارة لبلوغ هذا الهدف أضرت كثيراً بتركيا التي تظل أفضل أمل في ديمقراطية مسلمة ومعتدلة في المنطقة. فمنذ تأسيس الجمهورية الحديثة قبل أزيد من ثمانية عقود، رسمت تركيا لنفسها طريقا طويلة وشاقة نحو الديمقراطية. كما كانت تركيا، التي تعد عضواً مسؤولاً في حلف شمال الأطلسي، من أكثر الحلفاء الذين يمكن للولايات المتحدة أن تعتمد عليهم في منطقة مضطربة. وفي هذا الإطار، وجد استطلاع للرأي أنجزه "مركز بيو للأبحاث" في 2000 أن 52 في المئة من الأتراك لديهم موقف إيجابي من الولايات المتحدة، وهي النسبة الأعلى من نوعها مقارنة مع أي بلد من بلدان المنطقة باستثناء إسرائيل. بيد أن الأمور مضت منذ ذلك الوقت على نحو سيئ جداً على ما يبدو؛ إذ يفيد استطلاع للرأي أنجزه مركز "بيو" في 2007 أن الآراء الإيجابية للأتراك حول الولايات المتحدة تدنت إلى 9 في المئة، بل إن الأتراك ينظرون اليوم إلى الولايات المتحدة باعتبارها أكبر خطر على أمنهم القومي. وبدلاً من دعم وتقوية ما يمكن أن يكون قدوة ونموذجاً لبلدان المنطقة، تسببت إدارة بوش في انهيار كارثي في العلاقات بين البلدين. ويعزى تراجع شعبية الولايات المتحدة في تركيا إلى نظرة الأتراك للسياسات الأميركية باعتبارها مسؤولة عن تعريض أمن بلادهم للخطر. فقد أخذت تركيا على عاتقها إصلاحات صعبة في إطار جهود تحديثها واستيفاء المعايير السياسية والاقتصادية للاتحاد الأوروبي في أفق الانضمام إليه. غير أنه بدلاً من إطفاء العوامل التي يمكنها أن تذكي التطرف الديني والحركات الانفصالية العرقية، فإن سياسات الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي ساهمت في إلهابها وتأجيجها. المثير للسخرية أن التصدع في العلاقات الأميركية- التركية إنما حدث كنتيجة للديمقراطية القائمة. ففي مارس 2003، صوت البرلمان التركي ضد قانون يسمح للقوات الأميركية باستعمال حدود تركيا مع العراق كجبهة شمالية في الغزو، وذلك في وقت كشفت فيه استطلاعات الرأي أن 90 في المئة من الأتراك يعارضون الغزو الاميركي للعراق. وفجأة، وجد المسؤولون الأميركيون أن الديمقراطية عقبة في طريقهم؛ حيث شكك أحد السفراء الأميركيين السابقين في أنقرة في "مؤهلات تركيا الديمقراطية"، مجادلاً بأن الحكومة استسلمت لقوى الرأي العام، بدلاً من أن تكون زعامة رشيدة لمواطنيها. ثم خاضت إدارة بوش، المحبطة بسبب الرفض التركي، الحرب في العراق من دون مراعاة لمصالح تركيا؛ إذ تشكل "حكومة كردستان الإقليمية" المستقلة، المدعومة من قبل الولايات المتحدة والتي تزداد قوة يوماً بعد يوم، تهديداً وجودياً للقوميين في تركيا. ذلك أن عدم معالجة حقيقة لجوء أعضاء "حزب العمال الكردستاني"– منظمة تركية كردية إرهابية- إلى كردستان العراق، تثير حفيظة حتى أكثر الأتراك اعتدالاً. والواقع أنه كان من الممكن تفادي كل هذه الأمور – بل إنه مايزال ممكناً إصلاحها اليوم- فلو أظهرت الولايات المتحدة استعدادها لمعالجة التهديدات الحقيقية المحدقة بمصالح تركيا، لكان من الممكن أن تلعب تركيا دوراً بناءً في كردستان العراق، مع العمل في الوقت نفسه على النهوض برخاء وازدهار مناطقها الجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية. والحقيقة أن الأتراك يستثمرون كثيراً في التنمية الاقتصادية لكردستان العراق، حيث تعمل أزيد من 300 شركة تركية. ويمكن أن توفر الأنابيب التركية للأكراد فرصة تصدير النفط للأسواق الخارجية؛ ذلك أن صفقة ناجحة بين الأكراد وتركيا، ليست أمراً صعباً على زعامة أميركية فعالة. بيد أن صناع السياسة في واشنطن يبدو أنهم مصممون للأسف على ترك الفرصة تضيع إلى أن يصبح من الصعب تدارك الأمر. ولعل أوضح مظهر من مظاهر قصر نظر البيت الأبيض هو ما حدث خلال الأزمة الدستورية التي عصفت بتركيا في أبريل المنصرم. فقد بدأت الأزمة عندما قام رئيس الوزراء رجب طيب أردوجان، بتعيين وزير الخارجية عبدالله جول لمنصب رئاسة الجمهورية. ويذكر هنا أن جول، وعلى غرار أردوجان، عضو في "حزب العدالة والتنمية" إسلامي الهوى. غير أن ماضي جول الإسلامي وزوجته التي ترتدي الحجاب أثارا المخاوف من هيمنة للإسلاميين المحافظين، وفجَّرا ردود فعل هائلة للمؤسسة العلمانية في تركيا. كما أثار تحذيرات الجيش، الذي يحظى بوضع خاص في الديمقراطية التركية باعتباره حامي الدولة، وهو دور اضطلع به في الإطاحة بأربع حكومات منتخبة في الماضي. وفي هذا الخضم، وجد "الديمقراطيون" الأتراك صمت واشنطن خلال هذه الأزمة مطبقاً. وفي محاولة لنزع فتيل الأزمة، دعا أردوجان إلى انتخابات عامة سابقة لأوانها، حقق فيها حزبه انتصاراً كبيراً. واليوم، على واشنطن أن تقوم بمبادرة دبلوماسية مهمة لإعادة إحياء العلاقات بين البلدين. ولعل أول ما ينبغي عليها أن تقوم به في هذا الصدد هو الإشادة بنجاح تركيا في إظهار إمكانية تحديث ديمقراطية مسلمة علمانية ومعتدلة، والدفاع مجدداً عن مساعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولعل الأكثر أهمية من ذلك كله هو أن تشرف على اتفاق بين تركيا وحكومة كردستان الإقليمية حول تدابير محددة بهدف وقف الهجمات الإرهابية العابرة للحدود انطلاقا من كردستان. مدير "مركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية" التابع لجامعة هارفارد الأميركية، ومؤلف كتاب "الإرهاب النووي" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"