بول كروغمان لقد حل وقت اعتقد فيه كثيرون بتفوق الأوروبيين واليابانيين علينا في الاستثمار. وخلال تسعينيات القرن الماضي كانت المكتبات والأكشاك تغص بالكتب والمؤلفات الضخمة، وقد حملت أغلفتها صوراً لمحاربي "الساموراي" اليابانيين، وهم يعدون القراء بتعليمهم أسرار النجاح الاستثماري الذي حققته بلادهم في ذلك الوقت. وفي المنحى ذاته، كان كتاب المؤلف "ليستر ثرو" الذي حمل عنوان "التصادم: المعركة الاقتصادية المقبلة بين اليابان وأوروبا وأميركا" الذي صدر في عام 1992، وظل متصدراً قوائم صحيفة "نيويورك تايمز" لأفضل الكتب مبيعاً ورواجاً، طوال ستة أشهر كاملة... قد تنبأ بأن الفوز في تلك المعركة سوف يكون لصالح أوروبا. ثم جاء وقت آخر انقلبت فيه كل التكهنات رأساً على عقب، بتحول الضعف الأميركي إلى قوة ونصر. ويعود ذلك الانقلاب في جانب من جوانبه، إلى أن الطفرة الاقتصادية الكبيرة التي كانت قد أحدثتها إدارة "بيل كلينتون" في عقد التسعينيات، تباينت تبايناً صارخاً مع التباطؤ الاقتصادي الذي شهدته أوروبا، وموجة الكساد الطويلة التي ضربت اليابان أيضاً. غير أن الطفرة نفسها، وما صاحبها من تعزيز للثقة بأدائنا الاقتصادي، إنما يفسران بالأثر الإيجابي للإنترنت على بلادنا واقتصادها في المقام الأول. ولنذكر هنا أن الرئيس الفرنسي السابق "جاك شيراك"، كان محقاً كل الحق في شكواه من شبكة الإنترنت، ووصفه إياها بأنها شبكة "أنجلو-سكسونية". فمما يعطي لذاك الوصف مصداقيته، أن الجزء الغالب من أوروبا، فيما عدا مجموعة الدول الإسكندنافية، كان متخلفاً جداً حينها عن أميركا، في استخدام الشبكة الإلكترونية. على أن الأمر الذي ربما يجهله كثير من الأميركيين، هو أن هذه الصورة قد انعكست تماماً اليوم، بمعنى أن أميركا هي التي تخلفت كثيراً عن الركب الإلكتروني، قياساً إلى أوروبا، وذلك بعد أن ولى زمن الاتصال الشبكي القديم وفق نظام "ديال أب" الذي حل محله نظام "دي إس إل" والكابلات وغيرها من نظم الاتصال السريع بالشبكة الدولية. ولكم هي مدهشة الأرقام والإحصاءات التي تشير إلى هذه الفجوة الرقمية الهائلة. فحتى عام 2001، كانت نسبة السكان اليابانيين والألمان المتوفرين على خدمة الاتصال الشبكي السريع، لا تتجاوز نصف ما هي عليه نسبة المستخدمين أنفسهم للشبكة في الولايات المتحدة الأميركية. أما في فرنسا فكانت نسبة هؤلاء حتى ذلك الوقت دون الـ25%. لكن بحلول عام 2006، تجاوزت نسبة المستخدمين عبر الاتصال السريع بالشبكة في الدول الثلاث المذكورة، وبشكل كبير، نظيرتها في الولايات المتحدة. والأكثر إيلاماً من هذه الحقيقة، أن درجة سرعة الاتصال الشبكي في بلادنا، لا تزال أدنى مما عليه في الدول الثلاث المذكورة، وغيرها أيضاً في أوروبا. فوفقاً للبيانات الصادرة عن "مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكارات"، فإن متوسط سرعة الاتصال الشبكي في فرنسا، يعادل ثلاثة أمثال ما هو عليه عندنا، في حين يصل ذلك المتوسط في اليابان إلى نحو 12 ضعفه لدينا. وليس ذلك فحسب، بل إن أسعار الخدمة نفسها في أوروبا واليابان، هي أرخص بما لا يقاس من أسعارها هنا في أميركا. فيا لها من خيبة كبيرة في كل شيء رقمي! وبالنتيجة، فها نحن عاجزون عن أي تطبيقات إلكترونية جديدة لها صلة بالاتصال السريع بالشبكة. وبالمقارنة فإن فرنسا هي التي تقود العالم اليوم، في جبهة عدد المشتركين في خدمة التلفاز الشبكي، في حين لا يرد اسم الولايات المتحدة، حتى في قائمة أعلى 10 دول في هذه الخدمة. وبعد، فإن السؤال الذي لا بد من إثارته هو: ما الذي حدث على وجه التحديد لذلك السبق الإلكتروني الشبكي لبلادنا؟ أما الإجابة الموجزة والشافية عن السؤال فهي: سوء السياسات. ولتحري مزيد من الدقة، فإنه يجب القول إن أميركا ارتكبت ذات الخطأ في مجال خدمة الإنترنت، الذي ارتكبته ولاية كاليفورنيا فيما يتصل بسياساتها السابقة الرائدة في مجال الطاقة. والمقصود بهذا، إما أن تكون أميركا قد تجاهلت أو لم تنتبه إلى خدمة المصالح والدوافع الذاتية المحضة، أي حقيقة أنه تتعذر المحافظة على القدرة التنافسية للسوق، من دون المحافظة على النظم والضوابط المقيدة لها... بمعنى أنه يتعذر ترك تحديد أسعار الخدمة والاشتراك في الخدمات الإلكترونية، كما الحبل على الغارب للشركات والاستثمارات الخاصة في مجال تقديم هذه الخدمات للجمهور. وإذا كانت خدمة الاتصال الشبكي عن طريق خدمة "ديال أب"، قد حققت ازدهاراً ملحوظاً في ظل إدارة كلينتون، فإن السبب الرئيسي لذلك هو أن إدارة كلينتون لن تسمح للشركات المعنية بالحرية المطلقة في تحديد الأسعار كما يحلو لها. ولكن هذا هو ما حدث فعلياً إثر تنصيب إدارة بوش الحالية لـ"مايكل باول" رئيساً لـ"لجنة الاتصالات الفيدرالية"، ما أطلق لبارونات الخدمة الشبكية الإلكترونية حريات واسعة لفعل كل ما يحلو لهم، سواء من حيث توفير الخدمات المطلوبة، أم من ناحية تحديد أسعارها لجمهور المستخدمين. والنتيجة الطبيعية لهذه الفوضى، تضاؤل التنافس في مجال خدمات الموجة الواسعة في السوق الإلكترونية الأميركية. وأصبح المواطن الأميركي بين أحد خيارين كلاهما سيئ، عندما يحالفه الحظ والسعد: إما أن يحصل على خدمة الموجة الواسعة والاتصال السريع، عبر الاحتكارات الشبكية أو الهاتفية. ورغم ارتفاع الأسعار وبؤس الخدمة المقدمة، فإنه ما من سبيل آخر للحصول على الخدمة المطلوبة! فهل هذه هي المكانة الإلكترونية اللائقة بأميركا، وباقتصادنا القومي بين الأمم والشعوب؟ كاتب ومحلل أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"