عرف عن زعيم عربي أنه اشتكى في حينه من أن الغزو العراقي للكويت عام 1990، حرمه من قضاء إجازته الصيفية، وصار بعض السياسيين يتطيرون من قدوم الصيف، وربما يتشاءمون منه. أما الصيف الحالي فجاء بقلق أقل من المعتاد كثيراً حتى الآن؛ ففي البداية وقعت أحداث غزة "المؤسفة" (تعبير مصري). ثم انفجرت أحداث "نهر البارد", ثم الاحتجاز الطويل للفلسطينيين على المعابر والمنافذ والمطارات والمعسكرات... لكن من يهتم باللاجئين، هذه الأيام؟ ومقارنة بأحداث العام الماضي، يبدو صيف العام الحالي بكل محنه، وكأن شيئا لم يحدث. فحجم الإجرام الاسرائيلي في الهجوم على لبنان الصيف الماضي، كان مذهلاً بكل المقاييس. ورغم أن لبنان لم يعد يعرف الهدوء منذ عقود، فصيف هذا العام قد يعيد الزوار والسائحين الذين اضطروا للهرب من الجحيم الاسرائيلي خلال الصيف الفائت. وفى العراق زاد عدد العمليات العسكرية التي تشنها قوات "التحالف" وكذلك قوى المقاومة، بنحو الخمس، مقارنة بشهور الربيع. أما في اليمن فقد امتد الصراع العنيف بين الحكومة و"الحوثيين" الى الصيف من الشتاء الماضي, ولا يمكن تحميل الصيف مسؤوليته. وفى السودان ليس ثمة جديد كبير سوى التكدير الاعتيادي من جانب الدول الغربية للحكومة وربما أيضاً بعض الانتهاكات المتقطعة لحقوق الإنسانية في دارفور. لكن المسألة تبدو أكثر تعقيداً. فمقابل عمليات التصعيد في العراق وفلسطين ولبنان، ثمة ما يفيد بأن عمليات "التهبيط" نشطت أيضاً خلال الشهرين الماضيين. ويبدو صيف هذا العام طريفاً بالنسبة للأزمة بين طهران وواشنطن. فذلك الصراع، وجزء منه حرب بالوكالة، تزايد نسبياً بالمقارنة مع الشتاء, لكن الجانبين قررا الاجتماع لثاني مرة للتفاوض حول العراق وربما حول اللوحة الإقليمية كلها. وخلال الصيف كله لوحظ هدوء غير معتاد في تصريحات الرئيس "أحمدي نجاد" مقارنة بالخطبة النارية التي ألقاها في الجمعية العامة للأمم المتحدة بداية الخريف الماضي. تكثفت أيضاً جهود الوساطة غير الرسمية بين الدولتين. لكن طهران أعلنت عن تسريع برنامجها النووي فيما أعلنت الولايات المتحدة عن تكثيف نشاطها البحري في مياه بحر العرب. ويزيد الأمر إثارة أن جورج بوش الابن لاحظ، وبشكل مفاجئ، موضوعاً اسمه المفاوضات من أجل السلام في الشرق الأوسط، وذلك بعد أن نجح في عزل "حماس" المتمردة, وقام بتعيين اقرب الساسة الدوليين لقلبه الحجري مبعوثاً لـ"الرباعية"! وذهب المبعوث بالفعل يوم الأحد الماضي لإسرائيل باحثاً عن شيء يعرفه وهو مدى استعدادها للسلام! وبينما تحبس إسرائيل نحو 6000 فلسطيني من سكان غزة على الحدود مع مصر وترفض السماح لهم بدخول القطاع، وفي اشارة قوية لحبها الجم للسلام والوئام، أطلقت سراح 255 أسيراً فلسطينياً! وقرر "الموساد" نصح الحكومة بتأجيل الهجوم المتوقع على القطاع. فالهجوم سيضر بأمن إسرائيل التي يخدمها مشروع "الفصل" بأفضل مما تخدمها الحروب المتواصلة على الشعب الفلسطيني... وقد تكفل به الفلسطينيون وجنبوا إسرائيل شر القتال أو حرموها من متعه الزائلة حتى يتفرغوا للصلاة! إشارات متضاربة حول صيف العام الحالي, قد تدخله تاريخ المنطقة الغامض والذي لا شكل له ولا لون. وقد درجنا على تسميه هذه الاتجاهات المتعاكسة بـ"حالة سيولة"، ولكنها حالة لا تدوم. إذ لا يخفى أن الصراع في هذه المنطقة الشاذة (لفظ يطلقه المصريون على حالة السيارات المراد بيعها، ليعني حالة رائعة حتى لو كانت قديمة جداً)، قد صار يحسب بالنقاط وليس بالضربة القاضية، "اللهم لا نسألك رد القضاء وإنما اللطف فيه"! بعد موجة تهديدات عالية الصوت حول ضرب إيران بـ"القاضية" خلال عامي 2004 و2005, تكرم بوش بالتمهل وإعطاء السلام فرصة, من دون أن يتخلى أبداً عن لهجته المتغطرسة, وفضل اللعب الخشن الاعتيادي مثل الركل بالجزاءات والعقوبات الاقتصادية، ليس فقط مع إيران ولكن أيضاً مع الحكومة المصرية التي لم تفعل معه غير كل خير! وتبعه في ذلك، وإن بعد فترة تأخير مناسبة لزوم الكرامة والهيبة الإقليمية والدولية، أحمدي نجاد الذي ألهمه الله حكمة مفاجئة وتوقف عن التصريحات لُهنيهة! وفى الوقت الحالي، ورغم تحركات الأساطيل وألعاب إيران الخفية والعلنية في العراق والمنطقة، فإن السيناريوهات الأسوأ غفت قليلاً وإن لم تنم نوماً مريحاً. والعجيب أن الأمور تبدو وكأن ثمة تحركات من أجل "السلام" في فلسطين وأيضاً في لبنان! وبينما اكتفى الغرب بإرسال مغني الروك "تونى بلير" للمنطقة، فإن المنطقة كلها ذهبت لرئيس دولة لم يُعرَفْ إطلاقاً بغرامه بالغناء، وهو "نيكولا ساركوزى"، بحثاً عن صيغة لحل الأزمة اللبنانية الصامتة. وبإيجاز مخل يزداد الغموض حول مسار المنطقة بين لاعبيها الكبار والصغار, وكلما أخذ الملعب العريض شكلاً عدوانياً وبتشكيلات هجومية، يعود فجأة إلى الهدوء ويلعب الجميع لعبة دفاعية, والعكس! لكن الطابع المراوغ لصيف هذا العام، قد لا يكون سوى استعراض أنثوي للغموض الكامن في تركيبة هذه المنطقة وبدايةً لفصل شديد السخونة. فالصراع لم يهدأ أبداً، بغض النظر عن طريقة اللعب. وحتى عندما نظن أن السطح هادئ أو بارد، يستطيع أي مراقب أن يرى البخار الطالع من أعماق تغلي. وقد لا تكون السيولة الصيفية سوى مقدمة طويلة غير أوركسترالية لأغنية فيها عنفوان كبير كما يمكن أن نتعلم من أغاني الراحل محمد عبد الوهاب. ولدينا نظرية أساسية قد يثبت خطؤها، لكنها لا زالت تحكم التوقعات العصبية لسياسات المنطقة في المستقبل القريب. فبوش الابن ربما يفرغ من صلواته الصيفية أو من رحلات الصيد التي تهدئ من روعه، ليعود لتحضير ضرباته النهائية ضد البشر والتي قد تتم في الربيع المقبل على أقصى تقدير. فإن لم يضرب دولة ما في الربيع، وهي في هذه الحالة إيران أساساً، فقد تحرمه انتخابات الرئاسة من هذه اللذة. الانتخابات تتم هذه المرة أيضاً حول العراق، وما يسمى "الحرب ضد الإرهاب". وإن لم يكن قد كسبها بالفعل، فإن الشعب الأميركي لن يمكنه من خوض مزيد منها، على الأقل فيما يتعلق بمغامرة كبيرة مثل الحرب ضد إيران. ومن شبه المؤكد أن حزبه "الجمهوري" سيخسر الانتخابات الرئاسية إن لم يكن بوش قد فاز في معاركه في الشرق الأوسط قبل أن تتبلور معركة الرئاسة. فرصته الأخيرة محصورة إذن في فترة تمتد من نهاية إجازات الصيف وحتى بداية الربيع, وأثناء هذه الفترة قد يتدفق فيضان مهول، لا من مطر أو نهر أو ماء، وإنما من نار!