العلاقة وثيقة بين الأزمة اللبنانية وغيرها من الأزمات الساخنة في المنطقة الممتدة من شرق البحر المتوسط إلى الخليج العربي. وبعض هذه الأزمات الأخرى قابل لأن ينفجر، وأن يشعل المنطقة إذا خرج عن نطاق السيطرة. لكن الأنظار تتجه بالأساس إلى أزمة البرنامج النووي الإيراني في ضوء ما يتوفر من معلومات يشوبها الغموض عن إصرار نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني وفريقه على التصعيد العسكري إذا لم يحدث تقدم مقبول في معالجة هذه الأزمة حتى مطلع العام المقبل. فالوقت الباقي لإدارة بوش قصير. وليس أمام أنصار ضرب إيران إلا شهور معدودات. فإذا مضت هذه الشهور من دون إنهاء أزمة البرنامج النووي الإيراني سلماً أو حرباً، فقد تميل الإدارة القادمة إلى مهادنة طهران وعقد صفقة سياسية معها. وهذا هو الشر بعينه من وجهة نظر تشيني وتيار "المحافظين الجدد" في الإدارة الأميركية. ولذلك لا يمكن استبعاد ضربة عسكرية أميركية ضد إيران في موعد غايته بداية الربيع القادم على أكثر تقدير، إذا لم يحدث تقدم ملموس باتجاه حل سلمي للأزمة وتوفرت ظروف داخلية ملائمة في الولايات المتحدة. ومن الطبيعي أن ينعكس هذا السيناريو المحتمل على مسار الأزمة اللبنانية، وأن يكون لدى بعض أطراف معسكر "8 آذار" اقتناع بما قاله الرئيس السوري بشار الأسد في خطاب القسَم الأسبوع الماضي، وهو أن الأشهر المقبلة ستحدد مصير المنطقة وربما العالم. وكان السيد حسن نصر الله أمين عام "حزب الله" قد تحدث قبل شهور قليلة عن أن المنطقة لن تبقى كما هي الآن في حال نشوب حرب أميركية –إيرانية. وقد يدفعهم ذلك إلى تفضيل تجميد الوضع الراهن على صعيد الأزمة اللبنانية، والتحرك بطريقة النقلات الانتظارية على رقعة الشطرنج. غير أن هذا خيار صعب، في ظل اقتراب موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبسبب الخطر الذي يمكن أن يترتب على حدوث فراغ رئاسي في حال العجز عن عقد جلسة الانتخاب في الفترة الدستورية الممتدة من 23 سبتمبر إلى 23 أكتوبر القادم. ويستطيع تحالف "8 آذار" تعطيل هذه الجلسة التي يستلزم عقدها حضور ثلثي أعضاء مجلس النواب وفقاً للمادة 49 من الدستور. وهذا نصاب يصعب الالتفاف عليه رغم أن بعض قادة معسكر "14 آذار" لوحوا بإمكان انتخاب الرئيس بالأغلبية المطلقة فقط (النصف + 1). غير أن هذا التلويح لم يؤخذ بجدية. فكان واضحاً أن الهدف منه هو ممارسة ضغط على الأقلية (نواب معسكر 8 آذار) وحثهم على السعي إلى توافق على الرئيس الجديد حتى لا يحدث فراغ. كما أن إعلان البطريرك الماروني نصر الله صفير أنه يعتبر النصاب المطلوب لعقد البرلمان من أجل انتخاب رئيس الجمهورية هو نصاب الثلثين، حسم الجدل حول هذا الموضوع. وهو لم يهدف بذلك إلى إحراج بعض قادة "14 آذار" لأنه يتعاطف معهم، وإنما سعى إلى وضع قادة "8 آذار" أمام مسؤوليتهم الوطنية وليس فقط الدستورية، لأن حدوث فراغ رئاسي قد يعجل بانفجار لبنان قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود على صعيد أزمة البرنامج النووي الإيراني. ولذلك يدور السؤال اللبناني الأول والملح في اللحظة الراهنة حول إمكانات التوافق على رئيس جديد للجمهورية، وفرص تحقيق ذلك في غياب حد أدنى من التوافق على مستقبل لبنان وهويته وموقعه في الصراع على الشرق الأوسط؟ المعطيات القائمة على الأرض تؤدي إلى شيوع الاعتقاد في صعوبة تجنب الفراغ الرئاسي، بل تدفع بعضهم إلى توقع الأسوأ وهو تكريس الانقسام بين المعسكرين في حال اتجاه كل منهما إلى انتخاب رئيس من جانبه، فيصبح للبنان رئيسان متناحران. غير أن في هذه المعطيات نفسها ما يسمح، أيضاً، بالرهان على حدوث توافق على رئيس جديد لسببين: أولهما أنه إذا صح أن أهم قادة "8 آذار" ينتظرون ما سيحدث على صعيد الصراع الإيراني –الأميركي وانعكاساته على المنطقة عموماً وعلى لبنان خصوصاً، فهذا يعني أنه لا مصلحة لهم في تفجير الوضع داخل لبنان خلال الشهور القليلة المقبلة. وثانيهما أن إيران نفسها، والتي دخلت أزمة برنامجها النووي مرحلتها الأكثر خطراً، لا تجد مصلحة في زعزعة الوضع في لبنان إذا حسنت حساباتها السياسية. فالقوى الحليفة لها في لبنان تمثل إحدى أوراقها الأساسية وأحد مصادر قوتها الإقليمية في صراعها ضد الولايات المتحدة، إلى جانب نفوذها القوي في العراق وعلاقاتها التي تقترب من مستوى التحالف مع سوريا وصلاتها التي ازدادت قوة مع حركة "حماس". ولذلك فالأرجح أنها تفضل الاحتفاظ بقوة حلفائها في لبنان، وبالتالي عدم الزج بهم في تصعيد ينطوي على مغامرة يصعب حساب عواقبها. وربما تخشى إيران أن يؤدي تصاعد الأزمة اللبنانية وخروجها عن نطاق السيطرة إلى نشوب حرب أهلية تتدخل فيها إسرائيل وسوريا على نحو قد يشعل المنطقة وبالتالي يعجل بالضربة العسكرية الأميركية ضدها، بينما هي تأمل في تمرير الوقت القصير الباقي لإدارة بوش وبالتالي تفادي مثل هذه الضربة أملاً في أن تكون الإدارة القادمة أكثر استعداداً للتفاهم معها. ولعل هذا يفسر حديث وزير الخارجية الفرنسي "برنار كوشنير"، في افتتاح اجتماع الحوار اللبناني الذي استضافته باريس الأسبوع الماضي، عن أن إيران لا ترغب في زعزعة وضع لبنان، ولكن طرفاً إقليميا آخر يسعى إلى ذلك في إشارة ضمنية ولكنها مفهومة إلى سوريا! فهناك تناقض ثانوي بين طهران ودمشق بشأن الوضع في لبنان. وهذا تناقض قابل للتوسع نسبياً في الفترة المقبلة. وربما كان هذا هو أحد أهم دوافع الزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى دمشق نهاية الأسبوع الماضي. فليس في مصلحة أي من الدولتين أن يزداد التباين بين سياستيهما تجاه لبنان. وربما انطوى حديث وزير الخارجية الفرنسي على نوع من الرهان، أو بالأحرى الأمل في أن تتمكن إيران من إقناع سوريا بعدم إعاقة الاستحقاق الرئاسي في لبنان على أساس أن خطر المحكمة الدولية التي تعتبرها دمشق موجهة ضدها ليس ملحاً في الشهور القليلة المقبلة. والأرجح أن في إمكان إيران المساعدة، على هذا النحو، في توفير أجواء أكثر مواتاة نسبياً لتوافق لبناني على انتخاب رئيس جديد، إذا شمل هذا التوافق تشكيل حكومة وحدة وطنية يحصل معسكر "8 آذار" على ثلث أعضائها، وإذا أمكن حل عقدة إصرار العماد ميشال عون على أن يكون هو هذا الرئيس. وقد طرح بعض ممثلي "14 آذار" في الحوار اللبناني الذي رعته الخارجية الفرنسية، صيغة للتوافق على كل من الرئيس والحكومة الجديدين، تقوم على التزامن بين انتخابات الرئاسة وتشكيل حكومة الوحدة، في حين مايزال "8 آذار" يصر على أن تكون الحكومة أولاً. ولكن إذا حدث توافق إيراني –سوري على تيسير انتخابات الرئاسة، وتوافق لبناني على رئيس جديد مقبول في دمشق، لكنه ليس تابعاً لها ولا لغيرها، وعلى استحداث منصب نائب أول لرئيس الوزراء يشغله العماد عون مقابل تخليه عن التطلع إلى قصر بعبدا، سيكون ممكناً عبور نفق انتخابات الرئاسة. لكن هذا لا يعني أكثر من تهدئة مؤقتة للأزمة اللبنانية التي تبقى بانتظار المسار الذي ستأخذه أزمة البرنامج النووي الإيراني وتداعياتها الإقليمية. فهذه الأزمة قد تكون هي الاستحقاق الأكبر والأخطر على نحو يجعل الاستحقاق الرئاسي هو الأصغر. ومع ذلك، ربما يكون نجاح اللبنانيين في عبور نفق انتخابات الرئاسة مساعداً لهم على الحد من الآثار السلبية لتصاعد أزمة البرنامج النووي الإيراني وتحقق السيناريو الأسوأ الذي يبدأ بضربة أميركية ضد إيران تشعل حرباً إقليمية.