يتضح جلياً من خلال مناقشة الكونجرس لموضوع الحرب في العراق أن مشرعين كثيرين يرغبون في إعادة القوات إلى الوطن، ولكن مع الحرص على ألا يؤدي ذلك إلى العواقب المحتملة كحرب أهلية مدمرة، وانتصار كارثي لإيران و"القاعدة". وهو الأمر الذي دفع إلى البحث عن نوع من الحلول المتفاوَض بشأنها– أو ما تسميه "مجموعة دراسة العراق" "حملة دبلوماسية جديدة"- من شأنه أن يتيح خروجاً مشرفاً. على هذه الخلفية، يأتي هنري كيسنجر، "الرجل الحكيم" وأحد مستشاري الرئيس بوش، الذي أكد، وعن صواب، على أن من شأن "انسحاب متسرع" للقوات الأميركية أن يفضي إلى "كارثة جيوسياسية". غير أن الرجل أشار مؤخراً في مقال له إلى أنه لا يمكن التوصل إلى "نهاية سياسية للنزاع" عبر العمل العسكري، وإنما عبر "دبلوماسية أميركية حكيمة تتسم بالتصميم والحزم" تشمل الجميع، من اللاعبين العراقيين الداخليين إلى إيران وإندونيسيا. أغلب الظن أن كيسنجر كان يحيل– وإن لم يشر إلى ذلك في مقاله صراحة- إلى دوره في المفاوضات حول اتفاقات السلام الموقعة في باريس 1973 والتي أنهت التدخل العسكري الأميركي في حرب فيتنام. ذلك أن مقالاته السابقة– ومنها المقال الذي نشرته "لوس أنجلوس تايمز" في مايو المنصرم- كان واضحاً وصريحاً في الإشارة إلى تجربته الخاصة باعتبارها نموذجاً ينبغي الاستفادة منه. بيد أن دبلوماسية كيسنجر في حرب فيتنام لم تشكل نصراً مؤزراً سوى في كتاباته وتوصيفاته. فحسب "كيسنجر"، فإن "الاختراق الذي حدث في 1972" إنما يعزى لفشل الهجوم الشرقي لفيتام الشمالية والتلغيم الأميركي لميناء هايفونج –وجهوده الرامية إلى عقد اتفاق مع رعاة فيتنام الشمالية، إذ يقول: "عندما قامت الولايات المتحدة بتلغيم موانئ فيتنام الشمالية، وجدت "هانوي" نفسها معزولة نظراً لأن بكين والاتحاد السوفييتي وقفاً جانباً نتيجة للانفتاح الأميركي على الصين في 1971 وقمة 1972". ونتيجة لذلك –يقول كيسنجر- اضطر المفاوض الفيتنامي الشمالي "لي دوك ثو" للقبول بشروط أميركا، وهي :"وقف غير مشروط لإطلاق النار، والإفراج عن السجناء، واستمرار حكومة فيتنام الجنوبية القائمة، واستمرار المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأميركية لها؛ ووقف توغلات قوات فيتنام الشمالية؛ وانسحاب القوات الأميركية المتبقية؛ وانسحاب قوات فيتنام الشمالية من لاوس وكمبوديا". بيد أن رواية كيسنجر هذه تغفل بعض الحقائق التي سُلط عليها الضوء مؤخرا بعد أن رُفع طابع السرية عن الوثائق التي تعود لهذه الفترة. ففي كتب صدرت حديثاً مثل "المهندس المعيب: هنري كيسنجر والسياسة الخارجية الأميركية" (2004) لكاتبه المؤرخ "جوسي هانهيماكي"، تظهر صورة مختلفة تماماً عن تلك التي ترسمها مذكرات ومقالات وزير الخارجية الأميركي الأسبق. فرغم صحة ما يحكى بشأن استغلال كيسنجر لـ"الانفتاح على الصين" من أجل الضغط على فيتنام الشمالية، فإن الحقيقة أيضاً هي أنه طمأن شخصياً رئيس الوزراء الصيني "تشو إين لاي" في يونيو 1972 بأن كل ما يرغب فيه في الواقع هو "فترة زمنية معقولة تفصل بين النتيجة العسكرية والنتيجة السياسية". ماذا كان يقصد بالنتيجة السياسية؟ حسب "هانهيماكي"، فإن كيسنجر قال لـ"تشو": "إذا كنا لا نستطيع وضع حكومة شيوعية في السلطة، فإننا قد نكون قادرين على قبولها في حال حدث ذلك على فترة زمنية كنتيجة لتطور تاريخي". بعبارة أخرى، فإن كيسنجر أخبر "تشو"بأن الشيوعيين يستطيعون الحصول على سايجون (عاصمة فيتنام الجنوبية) طالما لم يقوموا بإذلال الأميركيين لدى خروجهم من فيتنام. إلى ذلك، انتقد كيسنجر شروع الكونجرس في تفعيل إجراءات عزل الرئيس نيكسون وما تلا ذلك من إضعاف للرئاسة بسبب سقوط فيتنام الشمالية. والحال أن انتهاكات الشيوعيين لاتفاقات السلام بدأت بعيد توقيعها، وهو ما لم يحتج عليه نيكسون وكيسنجر لدى هانوي، أو موسكو أو بكين إلا نادرا خشية نسف مبادرات مهمة أخرى مثل المحادثات حول تقليص الأسلحة النووية (سالت 2). والواقع أن الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف ورئيس الحزب الشيوعي الصيني ماو تسي تونج لم يحركا ساكنا لكبح حلفائهما الآسيويين الجنوبيين لأن ذلك لم يكن يخدم مصالحهما. فحتى في الوقت الذي أوقفت فيه الولايات المتحدة مساعداتها لفيتنام الجنوبية، كان الاتحاد السوفييتي يزيد تدفق الإمدادات على قوات فيتنام الشمالية؛ وكانت الصين تقوم بالأمر نفسه مع الخمير الحمر في كامبوديا. ونتيجة لذلك، استولت المجموعتان على السلطة في غضون أسابيع في أبريل 1975، وهو ما ترتبت عنه عواقب وخيمة. يمكن لكيسنجر أن يجادل بأن سقوط فيتنام الجنوبية وكمبوديا كان أمرا لا مناص منه بالنظر إلى انقلاب موقف الرأي العام من الحرب، إلا أنه لا يمكنه في الوقت نفسه أن يزعم، مثلما فعل في مذكراته، بأن دبلوماسيته شكلت "نجاحاً مبهراً"؛ ذلك أنه مهما كانت براعة تخطيطه، إلا أنه لم يُحدث فرقا كبيرا في نهاية المطاف. فكل ما فعله هو تقديم "فاصل زمني معقول" لإدارة نيكسون، وجائزة نوبل للسلام لكيسنجر. بل إن اتفاقات السلام عجلت بسقوط فيتنام الجنوبية عبر إيهام الكونجرس بأن الحرب انتهت وبأنه لا خوف من قطع المساعدات. الواقع أن في الأمر درساً وعبرة للحاضر؛ فالدبلوماسية القوية يمكنها أن تعزز نتائج النجاح العسكري، ولكنها نادراً ما تستطيع تعويض غيابه. ولذلك، فثمة حظوظ ضئيلة لقدرة أي جهود أميركية على إقناع الفصائل الداخلية في العراق مثل "جيش المهدي" و" تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين"، أو فاعلين خارجيين مثل إيران وسوريا، بتطابق مصالحها مع مصالحنا. وفي غضون ذلك، وبينما تسعى الولايات المتحدة لإرساء الاستقرار والديمقراطية هناك، يراهن أعداؤنا على الفوضى والاضطرابات لكسب النفوذ وإنهاكنا. إن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يغير حساباتهم هو تغير ميزان القوة على الميدان، وهو ما يحاول الجنرال "ديفيد بترايوس" بلوغه. إلا أنه يواجه ضغوطاً كثيرة من الوطن تُضعفه وتقنع أعداءنا بالصمود والانتظار إلى أن ننسحب. والحال أنه لا يمكن للمفاوضات أن تقود إلى اتفاق إلا حينما يواجه الطرف الآخر احتمال الهزيمة –أو على الأقل الطريق المسدود. كاتب ومحلل سياسي أميركي وزميل "مجلس العلاقات الخارجية" الأميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"