مع انتهاء الولايات المتحدة من احتفالات عيدها الوطني في الأسبوع الأول من هذا الشهر، أود أن أتقدم باقتراح متواضع للبدء في مشروع قد يشغلنا على امتداد القرن المقبل ويتمثل في نقل نموذج الرأسمالية المنضبطة ذات الطابع الاجتماعي التي ساهمت في خلق ازدهار هذه الأمة كما أوروبا الغربية طيلة الجزء الثاني من القرن العشرين خارج الحدود وإعادة صياغته ليطبق على الصعيد العالمي. ففي الوقت الراهن لن يفيد كثيراً النقاش الدائر حالياً عن الطريقة الأفضل لتعامل الولايات المتحدة مع العالم والتفاعل معه في الوصول إلى نتائج ملموسة. فمن ناحية يوجد الواقعيون الذي يرون أن دعم المصالح الأميركية في العالم والحفاظ عليها يستدعي التخلي عن الكثير من القيم التي نؤمن بها، ومن ناحية أخرى هناك من يعتقد بأن مصالحنا ستتعزز أكثر إذا ما سعينا إلى دعم تلك القيم والدفاع عنها سواء كان ذلك بالتنسيق والتعاون مع حلفائنا (وهي وجهة النظر الليبرالية)، أو الاعتماد على أنفسنا وتجاهل الآخرين (حسب رؤية المحافظين الجدد). لكن لا أحد من تلك الآراء يعبر عن الواقع الاجتماعي السائد في عصرنا الحالي، والمتمثل في بروز اقتصاد عالمي موحد بدأ يزحف على مفهوم السيادة الاقتصادية ويهدد بتقويضها، ونشوء أخطار جديدة تهدد مصالح الولايات المتحدة وقيمها على حد سواء. وبالطبع من المستحيل الانسحاب من الاقتصاد العالمي والانكفاء على الذات، كما أنه في الوقت الذي يمكن فيه التخفيف من حدة التحديات المرتبطة بالاقتصاد العالمي والحد من غلوائه على الصعيد الوطني، فإن الأمر في كثير من الحالات يتطلب حلولاً عالمية تمتد على نطاق واسع. ولننظر مثلاً إلى تلك الأخبار والتقارير الصحفية خلال الأسابيع الأخيرة التي تطرقت إلى الأدوية غير السليمة وغيرها من المنتجات مثل الألعاب والأغذية التي تورد من الصين لتملأ رفوف المحلات التجارية في الولايات المتحدة. لكنها نتيجة منطقية ومتوقعة بالنظر إلى قرار المصنعين الأميركيين وبائعي التجزئة –لا سيما "وول مارت"- بتصنيع منتجاتهم على نحو زهيد في الدول النامية، حيث لا وجود للقوانين الضامنة لحماية المستهلك. ومع أن أحداً لم يقترح في هذا البلد إلغاء وكالة الغذاء والأدوية التي سهرت على ضمان سلامة المنتجات الاستهلاكية طيلة المائة عام الماضية، إلا أن الوكالة بصدد التعرض للإلغاء على الصعيد العالمي. فقد باتت الوكالة تعرف من تلقاء نفسها أنها لا تقوم بمراقبة سوى قلة قليلة من المصانع في كل من الهند والصين، حيث يتم تصنيع حوالي نصف المكونات التي تدخل في إنتاج الأدوية المستعملة في الولايات المتحدة، كما أنها لا تخضع للتفتيش سوى 1% من شحنات الأغذية التي تصل إلى الموانئ الأميركية. والواقع أنه بمقدورنا، بل من واجبنا رفع موازنة وكالة الغذاء والأدوية حتى تتمكن من إنجاز مهامها، لا سيما في مجال المراقبة والضبط. لكن كم من المصانع تستطيع الوكالة أن تفتش في الصين؟ وماذا عساها أن تفعل لو قررت "وول مارت" نقل وحدات الإنتاج إلى بلدان ذات عمالة أرخص حتى من الصين كتايلاند والدول الأفريقية جنوب الصحراء؟ فربما تستطيع الوكالة تغطية بعض البلدان بينما يغطي الاتحاد الأوروبي بلداناً أخرى، كما يمكن لكندا المشاركة في مراقبة دول مناطق أخرى. ولعل الحل الأمثل يكمن في مساهمة منظمة التجارة العالمية، أو الأمم المتحدة في إنشاء وكالة دولية للسلامة على غرار منظمة الصحة العالمية مخولة بما يلزم من صلاحيات لتفتيش المصانع في أي بلد مع سلطة إنزال عقوبات قاسية على أية دولة لا تلتزم بمعايير السلامة في الإنتاج. والأمر نفسه ينطبق على أزمة التغييرات المناخية ليظهر بشكل واضح عجز التدخل على الصعيد الوطني وعدم قدرته على تنظيم الاقتصاد العالمي. ولا ينحصر الأمر على المناخ والمعايير الموضوعة لحمايته، بل ينسحب أيضاً على معايير العمل وإجراءات حماية حقوق العمال. فخبراء البرمجيات في "سان خوسي" بالولايات المتحدة هم أنفسهم في شنغهاي بالصين، بل هناك من يعمل في نفس الشركة. كما أن حراس الأمن في لوس أنجلوس يعملون في الشركة ذاتها التي توظف زملاء لهم في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا. لذا بدأت في السنتين الماضيتين تظهر اتحادات عمالية على الصعيد العالمي، وهو ما سيمهد الطريق في العقود المقبلة لبروز نوع من القوانين العالمية الرامية إلى حماية العمال. واليوم، وفي السياق نفسه، يحتدم في الولايات المتحدة نقاش حيوي بين المفكرين الليبراليين حول ما إذا كان من الأفضل حماية العمال الأميركيين من خلال سن مجموعة من الإصلاحات الداخلية، أم أننا في حاجة أيضاً إلى معالجة قواعد الاقتصاد العالمي المنفلتة من الضوابط. وفي اعتقادي الشخصي أن استعادة الاستقرار الاقتصادي وخلق المزيد من الفرص داخل الولايات المتحدة في زمن العولمة يتطلب ضبط الأسواق وتمكين العمال على الصعيد العالمي. هذا الاعتقاد الشخصي ليس في الواقع سوى المقترح الذي أدعو إليه ويتعين أن ينصب عليه المشروع الليبرالي في القرن الحادي والعشرين متصدراً لأجندة النقاش على ما سواه. ورغم أن المقترح لن يجد له طريقاً إلى حملة الانتخابات الرئاسية في عام 2008، لكن بمرور الوقت ستضطر القوى التقدمية، في ظل واقع الاقتصاد المعولم، إلى التفكير في صياغة نوع من الحكومة العالمية تنتقل من الوطني إلى العالمي. وهي العالمية التي ستسمح للولايات المتحدة بالحفاظ على مصالحها وفي الوقت نفسه دعم قيمها دونما الحاجة إلى التضحية بالواحدة على حساب الأخرى. هارولد مايرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"