انعقدت مؤخراً الورشة الثقافية الثانية للحوار الأورومتوسطي بمدينة إشبيلية الإسبانية تحت رعاية مؤسسة الثقافات الثلاث (الإسلامية والمسيحية واليهودية). وجاءت الورشة بعد تنظيم جولتها الأولى في العاصمة الفرنسية باريس خلال شهر سبتمبر الماضي على أن يتم عقد دورة ثالثة خلال شهر ديسمبر المقبل في مدينة الإسكندرية بمصر. وتعقد هذه الورشة بمبادرة من الرئيس الفرنسي الأسبق "جاك شيراك" إدراكاً منه لحجم التحديات الناتجة عن تنامي أسباب التوتر على الساحة الدولية والدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافات سواء في إذكاء الصراع، أو التخفيف من حدته. وتأتي هذه اللقاءات أيضاً كإضافة إلى ندوات الحوار الأورومتوسطي التي أطلقت ضمن عملية برشلونة، أو تلك المنضوية تحت لواء منتدى "تحالف الحضارات" الذي أقامه الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة "كوفي عنان". وقد استضافت الورشة الثانية للحوار الأورومتوسطي في إسبانيا العديد من الشخصيات العالمية المهتمة بحوار الحضارات وتعزيز دوره لحل المشكلات المطروحة على الساحة الدولية. بدأت الورشة بكلمة للكاتب والمفكر الفرنسي "ريجيس دوبري" أشار فيها إلى محدودية الحوار القاصر على النخبة الثقافية في إحراز تقدم ملموس على صعيد أشمل، أو الوصول إلى شرائح واسعة من المجتمع. فقد ركز في كلمته التي ألقاها في ورشة الحوار الأورومتوسطي على حقيقة انفصام النخبة المشاركة عن الشارع، أو الرأي العام الذي يتعصب لهوياته الصغيرة ويتمسك بها، بينما النخبة المشاركة مستعدة بكل رحابة صدر للاتفاق فيما بينها، رغم اختلافاتها الثقافية والدينية والجغرافية. فالواقع يشهد تدهوراً واضحاً وصعوداً متنامياً للأخطار، فضلا عن تفاقم أعمال العنف في مناطق العالم المختلفة. ويخلص "دوبري" إلى أننا نعيش في عالمين متوازيين يجهلان بعضهما بعضا؛ عالم النخب المنفتحة على الآخر، وعالم مواز يقتل فيه الناس بعضهم بعضا. غير أن العديد من المتدخلين، مثل الأكاديمية "إيستر بينباسا"، أبرزوا مفارقة أخرى عدا تلك التي أشار إليها "دوبري". فإذا كانت النخب تسعى إلى التداول وعقد اللقاءات الحوارية كتلك التي تستضيفها إسبانيا، فذلك لأن العالم يسير في الاتجاه الخطأ، مما يستدعي الانكباب على دراسة أوضاعه وفتح حوار مع نخبه. وترى "إيستر بينباسا" أنه في الماضي لم تكن الحاجة قائمة لتنظيم منتديات للحوار بين الثقافات المختلفة لأن أصحابها كانوا يعيشون في سلام نسبي وفي تناغم يتميز بالاحترام المتبادل تنتفي معه ضرورة عقد اللقاءات، أو الندوات. وترى أيضاً أن زمن التعايش المشترك بين أصحاب الديانات المختلفة في الواقع قد ولى وانقضى بعد تنامي الأصوليات في العالم واحتدام الصراع بين الثقافات المختلفة. لكن مع ذلك لن أبدي، من ناحيتي، التشاؤم نفسه الذي أظهره "ريجيس دوبري" في مداخلته بتقليله من قدرة الحوار على إحداث ثغرات على الصعيد الشعبي، ذلك أن الإرادة القوية والرغبة الصادقة في نزع فتيل الصراع تلعب دوراً أساسياً في تهيئة أرضية مشتركة من الحوار والتفاهم لا تقتصر فقط على النخب، بل تنطلق منها لتمتد إلى شرائح المجتمع الواسعة. وبالطبع لا يمكن التعويل على قدرة المنتديات الحوارية فقط، أو الركون إلى اللقاءات التي تعقدها النخبة لتشجيع التفاهم المشترك وإشاعة ثقافة السلام، لكن يبقى الحوار على الأقل أفضل من غيابه. ومع أن الحوار في مثل هذه اللقاءات يظل قاصراً على النخب دون غيرها، إلا أنه يبقى ضرورياً لتوفير فرص التعارف بين المثقفين وإيجاد أرضية مشتركة تتعالى على الأوجه الضيقة للدين والثقافة وغيرهما. واللافت أن الحوار الثقافي بين النخب والمثقفين لم يمر من دون الإشارة إلى مركزية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي لتعزيز التعايش السلمي بين الثقافات المختلفة. وفي هذا الصدد أشار "ميشال واشاوسكي"، أحد الوجوه البارزة في حركة السلام بإسرائيل إلى أن من العوامل التي تباعد بين المنطقة والسلام، إلى جانب العمليات الانتحارية التي يقوم بها الفلسطينيون، هناك غياب الضغط الدولي على إسرائيل ومطالبتها بوقف ممارساتها. فقد أدرك الإسرائيليون أن المجتمع الدولي يبقيهم بمنأى عن الضغط وبأنه لا يوجد ثمن تدفعه إسرائيل إزاء احتلالها للأراضي الفلسطينية، أو إخضاعهم للقمع والتنكيل، إذ لا يوجد تهديد بفرض عقوبات دولية عليها يدفعها إلى التراجع، والتفكير جدياً في إقامة سلام عادل للجميع. ويتابع "واشاوسكي" أن خروج مظاهرات إلى الشارع في إسرائيل تضم ستة أشخاص، أو حتى ستة آلاف مشارك للاحتجاج على ممارسات الحكومة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين لن ينجح في تحريك شرائح واسعة من المجتمع وإقناعها بجدوى السلام، ما دامت تكلفة التعنت والتصلب في المواقف تظل غائبة. والحال، يقول ناشط السلام الإسرائيلي، إن الدولة العبرية لا تدفع اليوم أية تكلفة جراء احتلالها لأراضي الفلسطينيين، وممارسة القمع ضدهم، أو انتهاكاتها المتكررة للقانون الدولي، ومن ثم لا يوجد ما يدفع إسرائيل إلى تغيير مسلكها. لكن بعضهم الآخر رأى بأنه لا يمكن لإسرائيل سوى أن تهتم بالرأي العام الدولي مستدلين على ذلك بقلق المسؤولين الإسرائيليين كلما تحرك الاتحاد الأوروبي، ولو على استحياء، سواء على مستوى المفوضية، أو البرلمان الأوروبي. وفي تدخل آخر مميز أشار "أندري أزولاي" مستشار العاهل المغربي بأنه بإرجاع المشكلة إلى الدين فإننا نعني بذلك الإسلام، لذا فإن الحديث عن حوار الحضارات هي عبارة منمقة تحيل في الحقيقية إلى العلاقة بين الإسلام والعالم الغربي. والحال، يقول "أزولاي"، إن المشكلة ليست دينية، بل هي سياسية تتعدد مسمياتها بين فلسطين والعراق، وإسرائيل، أو غيرها. وأقر "أزولاي" أيضاً بمحورية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، معتبراً أنه ساهم في صياغة وعي مئات الملايين من المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وفي تحديد قيمهم والتزاماتهم الدولية. وطالب أيضاً بضرورة الاعتراف المتبادل بالتاريخ من خلال "كتاب أبيض" تشرف عليه الأمم المتحدة يقوم بتوثيق التكلفة التي دفعها الفلسطينيون جراء إنشاء دولة إسرائيل، هذا الاعتراف بالتاريخ قادر، حسب أزولاي، على تمهيد الطريق أمام الإسرائيليين والفلسطينيين لعقد سلام دائم وعادل في المستقبل.