ظاهرها أزمة دبلوماسية بين لندن وموسكو، وباطنها أشياء أخرى... فإعمالاً لقاعدة المعاملة بالمثل، قامت موسكو بطرد أربعة دبلوماسيين بريطانيين، وأعلنت أنها سترد على أي خطوة تُقدِمُ عليها لندن. وجاء تحليقُ قاذفتين روسيتين اقتربتا من الأجواء البريطانية ليزيدا في تعميق الأزمة بين البلدين... لا شك أن الحجج البريطانية لطرد الدبلوماسيين غير منطقية، وهي تكيل بمكيالين في ردها على رفض موسكو تسليمَ "أندريه لوجوفوي" المتهم باغتيال الجاسوس "ليتفينينكو" في لندن، بينما ترفض موسكو تسليمه لأن ذلك يتعارض مع الدستور الذي يمنع تسليم المواطنين الروس إلى دول أجنبية. وَوَجْهُ الكيل بمكيالين هنا يكمن في رفض لندن تسليم مواطنين روس تطالب بهم موسكو للمثول أمام العدالة في قضايا مختلفة تتعلق بالشيشان وشركة "يوكوس" النفطية العملاقة التي انهارت بين عشية وضحاها، من بين أمور أخرى... أما الهدف الروسي، فلا شك أنه إسكات المعارضة التي تتخذ من لندن قاعدة لها... وما أشبه اليوم بالبارحة، فالمعارضة الشيوعية رأت النور في الغرب، وها هي المعارضة الليبرالية تولد من نفس الرحم! الواقع أن التحليل يتجاوز هذه القراءة السطحية، وما يطفو أخفُّ مما يَعْلَق في الأعماق. فلا شك أن التحولات التي تمر بها أي دولة لا تخفى عمن يستطيعون قراءة أبعادها ولا يقفون عند مجرد سجال دبلوماسي. ولنا أن نتصور حجم الاهتمام الذي يمكن أن تستقطبه دولة بوزن روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي والمتطلعة إلى أمجادها القيصرية. ومن هذا المنطلق، فإن الصراع يكمن أساساً في السعي إلى الحصول على مكاسب في بلاد مترامية الأطراف لا تزال في مرحلة التطور إلى الرأسمالية، وهو ما يجعلها محطَّ أنظار المستثمرين. أجل، في روسيا الكثير من المصالح التي يسعى الطامعون فيها إلى حمايتها، ولن يتأتى لهم ذلك إلا برفع يد السلطة السياسية عن الاقتصاد الذي لمَّا يتخلصْ بعدُ من إرث عقود من التسيير البيروقراطي. ومن ثم لا يمكن أن تخرج العلاقات بين لندن وموسكو عن منطق الحسابات الاقتصادية، لا سيما أن الاستثمارات البريطانية في روسيا تقدر بأحد عشر مليار دولار أغلبها في قطاع الطاقة، التي هي بيت القصيد في عالم يشهد حروباً من أجل النفط، ولأن روسيا تريد إعادة بسط يد الدولة على نفطها، وهو ما لا يخدم الشركات الغربية وعلى رأسها البريطانية. ومن جهة أخرى فإن روسيا عملاق اقتصادي في قطاعي النفط والغاز له دوره في حفظ التوازن العالمي في مجال الطاقة إلى جانب كونه مصدر قلق للأمن الأوروبي، حيث تُظهر عدة قضايا أن موسكو تملك أوراقاً مهمة يمكنها أن تغير بها مسارات سياسية واستراتيجية كثيرة، وهي الأوراق التي تسعى إلى استثمارها في علاقاتها الدولية بالضغط على خصومها. وقد اتخذ الخلاف صوراً عملية منها محاولة إنشاء منظمة للغاز، وتعليق تحالفَها في محاربة الإرهاب وفي معاهدة الحد من انتشار الأسلحة التقليدية، والتلويح باستخدام "الفيتو" ضد استقلال كوسوفو في خطوة أخرى في هذا الصراع الذي أصبح يتغذى بوسائل الحرب الباردة في اتهامات متبادلة بالتجسس وطرد الدبلوماسيين. ويتخذ الصراع بين الدول صراعاً بين الأشخاص أيضاً، فلرئيس الوزراء البريطاني أبعاده التاريخية والاقتصادية في عقيدته وتصوراته، وهمُّه الوحيد المحافظة على مصادر الطاقة واستثمارات شركات بلاده. أما بوتين فله تصوراته الخاصة به، وهو الذي يريد أن يكون قيصر روسيا الذي يعيد بناء مجد الإمبراطورية، فنراه يبسط سيادة سلطة الدولة على الاقتصاد للسيطرة على التحولات التي تشهدها البلاد. فكلا الرجلين يريد الدفاع عن مصالح بلاده الاستراتيجية باستخدام ما هو متاح من وسائل الضغط والإكراه. وبوتين الذي سيغادر الكريملن تتميز سياسته بالخروج عن نهج ميخائيل جورباتشوف الذي اتسم بمقايضة المواقف السياسية بمكاسب اقتصادية مع الغرب، كما أنها لا تشبه سياسة يلتسين المشككة في مواقف الغرب من روسيا عندما أرادت تجاوز أزمتها الاقتصادية والنهوض من جديد، لذا فإنه اليوم يسعى إلى بناء سياسة خارجية براجماتية على حساب المبادئ الأيديولوجية، ومثال ذلك عملية تسليح إيران، وهي خيار لا يقوم على جهل بالطموح الإيراني في الخليج، بل كان من أجل المكسب المادي ودخول المنطقة في سباق تسلُّح يعمل على تدوير المصانع الروسية على غرار نظيرتها الغربية. وتقوم سياسة بوتين أيضاً على بناء الدولة الروسية بسلطة مركزية وأمنية، وهو الذي عُرف عنه الرفض الحازم لعالم يحكمه قطب واحد، وذلك من خلال المواجهة الصارمة للقرارات الأميركية وبناءِ علاقات دولية للعودة إلى نظام دولي تعود فيه روسيا إلى لعب دور الاتحاد السوفييتي، وفق مقتضيات الواقع الجديد. ولا بد من القول إن القوة النووية الروسية ودورها الريادي في مجال الطاقة العالمية وحضورها الدولي المتزايد، يؤكد رغبتها في الاحتفاظ بمكانتها كقوة عظمى وأكبر قوة أوروبية، وإذا كان الغرب يرغب في تفكيك وتحييد محاور القوة الاقتصادية والعسكرية الروسية، فإن روسيا أيضاً تحاول تفكيك استراتيجية القوة الغربية، أي أن من لا يستطيع تجاوز القوة يحاول تفكيكها أو التقليل من قوتها في المستقبل بالبحث عن محاورها. وهكذا فالأمر يتجاوز النزاع بين بلدين ليعكس واقع العلاقات بين الغرب وروسيا بما تحمله من ثقل ماضي الحرب الباردة. ربما بدا التحليل لبعضهم يبالغ في ما يبدو لهم مجرد تجاذب بين دولتين ولا يخرج عن مجرد كونه طرداً متبادلاً لدبلوماسيين بعد أن اعترى علاقات البلدين ما يعكر صفوها إلى حين انقشاع الغيوم... ولكن إمعان النظر في الأمر يكشف المستور عن الشجرة التي تخفي الغابة الروسية التي يطمع الجميع في أن ينعم بظلالها الوارفة... وما التدابير المتخذة هنا وهناك سوى أدوات الصراع بين الدب الروسي المترنِّح، الذي لا يريد أن يسقط، وبين أطماع قُوى تريد بيع جلده قبل أن يموت...