محمد ولد المنى "باتيل": فوز "شرفي" يجدد أمل النساء! ---------- النساء قادمات إلى صدارة المشهد السياسي في آسيا، والتجارب تتلاحق تالياً... بدءاً من بنغلاديش، مروراً بباكستان ثم تركيا فإندونيسيا فالفلبين... وانتهاءً بثاني أكبر تجمع سكاني على مستوى العالم، ألا وهو الهند التي أوصلت، أول أمس السبت، سيدة من نسائها إلى سدة الرئاسة كسابقة هي الأولى في تاريخها. الهند إذن تتوج نظامها السياسي، وهو أكبر ديمقراطية في العالم النامي، بصعود امرأة إلى منصب طالما ظل ذكورياً صرفاً. فازت "براتيبها باتهيل" بكرسي الرئاسة الهندية، في مواجهة منافسها الوحيد -لكن القوي جداً- مرشح "التحالف الديمقراطي الوطني" المعارض "بهايرون سينج شكاوات" (84 عاماً)، وهو أحد الساسة الهنود المخضرمين الأكفاء، وكان نائباً للرئيس المنتهية ولايته، كما سبق أن ترأس مجلس الشيوخ، وتولى رئاسة حكومة ولاية "راجستان" ثلاث مرات، وهو كذلك قائد مؤسس في حزب "بهارات جاناتا"... لكن "باتيل" استطاعت هزيمته بحصولها على نسبة 66% من أصوات هيئة الناخبين المؤلفة من نواب البرلمان الوطني والبرلمانات المحلية، وهو فوز توقعه لها كثير من مراقبي الشأن الهندي إثر إعلانها التقدم لخوض السباق الرئاسي. فباتيل البالغة من العمر 71 عاماً، سياسية مخضرمة وناشطة حزبية متمرسة، وقد شغلت عدة مناصب تنفيذية وتشريعية في بلادها، ونالت مواقع قياديةً في "حزب المؤتمر الوطني"، وأكسبتها مسيرتها السياسية الطويلة، خبرة ثرية بقضايا الواقع الهندي وتحدياته... أهلتها لتصبح أول رئيسة في تاريخ الهند. ولدت "بارتيبها ديفيسينج باتيل" في مدينة "مالغاون" بغرب الهند في ولاية مهاراشترا (عاصمتها بومباي)، لعائلة فقيرة، لكنها أكملت تعليمها الابتدائي والثانوي، لتلتحق بكلية الحقوق في جامعة المدينة. وحينئذ كانت باتيل تؤدي أيضاً بعض الأعمال المتواضعة للإسهام في إعالة أسرتها المكونة من بضعة أفراد، وما أن أكملت دراستها الجامعية حتى دخلت مجال المحاماة، ثم أخذت تصعد بسرعة في المجال السياسي؛ فانتخبت عام 1962 نائبة في البرلمان المحلي لولايتها ممثلة لـ"حزب المؤتمر"، وحافظت على مقعدها في البرلمان طوال أربع دورات متتالية حتى عام 1985، حين فازت بعضوية مجلس الشيوخ القومي، ثم انتخبت عام 1991 لعضوية البرلمان القومي أيضاً، قبل تعيينها عام 2004 حاكماً لولاية "راجستان"، المنصب الذي ظلت تشغله حتى الآن. ستحتاج باتيل إلى الاستعانة برصيد خبرتها، للإضطلاع بمهام ومسؤوليات منصبها الجديد خلال ولاية مدتها خمس سنوات قادمة، إذ يمثل الرئيس في النظام السياسي الهندي أعلى سلطة تمثيلية في هرم الدولة، وهو يصادق على القوانين ويصدر مراسيم العفو، ويساهم في حل الأزمات السياسية بوصفه حامي الدستور، كما يعَدُّ القائد الأعلى للقوات المسلحة... وذلك في بلد يعاني مصاعب وأزمات داخلية مركبة. فرغم النجاحات الباهرة للهند في مجالات التكنولوجيا الدقيقة وصناعة البرمجيات، وفي إنجاز برامج تنموية تشهد لها معدلات نموها الاقتصادي التي قاربت 9% خلال الأعوام الأخيرة، فإن تلك الدولة النووية الكبرى في آسيا، مازالت تعاني من ارتفاع معدلات الفقر والبطالة ووفيات الأطفال الرضع والتلوث البيئي والاكتظاظ السكاني والمدن العشوائية... وإلى ذلك تواجه الهند مشكلة اجتماعية وأخلاقية كبرى، تتمثل في ظاهرة وأد البنات وإجهاض الأجنة الإناث، إذ أظهر آخر إحصاء رسمي ولادة 927 أنثى فقط مقابل 1000 مولود من الذكور، ما يعني أنه خلال العقدين الماضيين فقط، شهدت الهند إجهاض أكثر من عشرة ملايين جنينٍ أنثى. وفي ضوء ذلك الواقع المر، كان إصرار "سونيا غاندي"، رئيسة "حزب المؤتمر" الحاكم، على ترشيح باتيل، باعتبار أن وصول امرأة إلى منصب الرئاسة سيساهم في مكافحة التمييز ضد النساء في الهند. وقد خاض "حزب المؤتمر"، والأحزاب المؤتلفة معه في إطار "التحالف التقدمي المتحد"، معركة انتخابية ضارية لإنجاح مرشحته "باتيل"، لكي يحتفظ بسيطرته على منصب الرئاسة إلى جانب قيادته للحكومة. ورغم أن التحالف الحاكم وتحالف المعارضة، ألقى كل منهما بثقله وراء مرشحه لانتخابات الرئاسة، فإن منصب الرئاسة نفسه، في النظام السياسي الهندي، يعد شرفياً وبروتوكولياً إلى حد كبير، مقابل ما يحظى به رئيس الوزراء من سلطات تنفيذية واسعة، لذلك نلاحظ أنه من بين الـ14 شخصية تعاقبت على رئاسة الهند خلال 57 سنة الماضية، لا يكاد اسمٌ واحد منها يحضر في الأذهان، خلافاً لمن تقلدوا رئاسة الوزراء، وعلى أرسهم –بطبيعة الحال- "المهاتما غاندي" كأول رئيس وزراء للهند بعد استقلالها. وبالنظر إلى الطابع البروتوكولي لمنصب الرئيس، فإن فوز باتيل به يبدو حدثاً عادياً ومحدود الأهمية، لاسيما أنه سبق وأن أسندت قيادة الحكومة الهندية إلى امرأة؛ هي الراحلة أنديرا غاندي، كما كانت أرملة ابنها المغدور ورئيس الحكومة الأسبق، "سونيا غاندي"، قاب قوسين أو أدنى من رئاسة الحكومة بعد فوز حزبها في انتخابات عام 2004، إلا أنها قررت الاعتذار في اللحظات الأخيرة عن تقلد ذلك المنصب. ومقارنة بأنديرا وسونيا، لا تعد باتيل شخصية معروفة على نطاق واسع على الصعيد الوطني، بل إنها واجهت خلال حملة انتخابات الرئاسة الأخيرة، طعوناً في ماضيها وفي سجلها السياسي، وكانت المزاعم بالمحسوبية وسوء الإدارة المالية والتستر على الأقارب... من الاتهامات التي أثارتها بحقها وسائل إعلام المعارضة، إذ وجهت إليها اتهامات بحماية شقيقها الذي يشتبه بتورطه في عملية قتل، وزوجها الذي يعتقد أيضاً أنه متورط في فضيحة مالية وعملية محاولة انتحار! إلا أنه رغم ذلك، يشير انتصار باتيل وسيرتها الشخصية معاً، إلى حيوية سياسية متجذرة في الهند، كما يجدد أمل النساء وأنصار الحركة النسوية هناك، في المراهنة على تغيير حقيقي لأوضاع المرأة والنظرة إليها في بلد التنوع والاكتظاظ والرحابة... أي شبه القارة الهندية!