كرر مسؤولون إسرائيليون موقفاً شبه موحد إزاء المؤتمر الدولي الذي اقترحه الرئيس الأميركي جورج بوش لحل القضية الفلسطينية, والموقف هو الترحيب بالفكرة، لكن في الوقت نفسه التأكيد على أن المؤتمر لن يناقش مسائل حق العودة, والمستوطنات, والسيادة على القدس. ما الذي يتبقى إذن للحديث حوله في هذا المؤتمر أو غيره إن كان هدفه تقديم حل لقضية فلسطين؟ وألا يثير ذلك أكثر من سؤال حول جدوى المؤتمر عندما تعلن إسرائيل مسبقاً أنه ليس من صلاحيته مناقشة القضايا الأساسية؟ ما يتبقى إذا هو التأكد من أن فكرة المؤتمر هي بالفعل بائسة توقيتاً ومضموناً وأطرافاً, ولا تخدم المصالح الفلسطينية, وتثير شكوكاً عميقة حول دوافع الدعوة إليه. أول هذه الشكوك يتعلق بالسياق الإقليمي والتوقيت. ففي ضوء الموقف الإسرائيلي الذي يجهض عملياً هذا المؤتمر، يصبح من المشروع ربط فكرته بأجندة السياسة الأميركية الأعم والأهم في المنطقة، خاصة لجهة الملفين العراقي والإيراني. كما يصح أيضاً اتهام المؤتمر بأنه مجرد تمرين علاقات عامة يحاول تقديم صورة تخفف من تواصل الفشل الأميركي في العراق بالتلازم مع تصاعد الدعوات داخل الكونغرس وحوله للانسحاب السريع من بلاد الرافدين. واستطراداً, وفيما يتعلق بالعنصر الإيراني في صناعة القرار الأميركي الشرق أوسطي, يغدو من المنطقي تقدير علاقة زمنية وسياسية بين عقد هذا المؤتمر وأي تطور على صعيد الملف الإيراني، خاصة لجهة احتمال شن حرب ضد إيران. فهنا سوف يأتي المؤتمر المقترح في الخريف من ناحية زمنية, وهو توقيت مطاط يمكن تقديمه وتأخيره بحسب ما يخدم المصلحة الأميركية في المنطقة. فمثلاً قد يأتي المؤتمر في أعقاب تلك الحرب المفترضة كي يطرح صورة إقليمية أخرى للولايات المتحدة بعيد تلك الحرب، إن حصلت. ومن ناحية الشكل والمضمون، ليس هناك ما هو جديد في فكرة المؤتمر إلا التأكيد على الانقسام الإقليمي وترسيخه في المنطقة بين محور "المعتدلين" الذين سيدعون إلى المؤتمر ومحور "المتشددين" الذين سيُستثنون من الدعوة. وهذا الشكل التقسيمي يُترجم في أسوأ تعبيراته على المستوى الفلسطيني حيث عزز خطاب بوش والدعوة إلى المؤتمر حالة الانقسام الراهنة بين "فتح" و"حماس". والظن الساذج بأن أي اتفاق مع طرف فلسطيني من دون بقية الأطراف يمكن أن ينجح، هو غباء مركب لأن مثل هذه التجربة تم خوضها منذ مؤتمر مدريد سنة 1991, ثم أوسلو عام 1994، وما تلاهما ووصولاً إلى الانتخابات الفلسطينية عام 2006 وفوز "حماس" بها. وطوال تلك السنوات كان أحد أسباب فشل كل الاتفاقات وخيبة وعود السلام، أنها تمت جميعاً على خلفية غياب الإجماع الفلسطيني. لم يكن غياب ذلك الإجماع هو السبب الوحيد أو الرئيسي للفشل, إذ تتحمل إسرائيل المسؤولية الأكبر لأنها لم تكن جدية في العملية بكاملها. لكن مع ذلك فإن فكرة استثناء حركة "حماس" من أي مشروع شامل لحل القضية الفلسطينية تبقى فكرة هشة, وقد تفاقمت هشاشتها بعد فوز الحركة في الانتخابات وانتقالها إلى قلب المؤسسة الشرعية والرسمية الفلسطينية. والغريب والمشكك في موضوع فكرة المؤتمر, ومحاولة استثناء "حماس" وإقصائها من العملية السياسية الفلسطينية, هو أن واشنطن تمارس نفاقاً منقطع النظير عند مقارنة سياستها في العراق مع سياستها في فلسطين. ففي الأولى اشتغلت وتشتغل بكل قوة على جمع كل ألوان الطيف السياسي العراقي في العملية السلمية لأنها تعتقد, محقة, أنه في غياب التوافق العراقي فإن أي أفق لحل الوضع العراقي سياسياً سيظل بعيد المنال. بينما في فلسطين اشتغلت وتشتغل بكل قوة على فصم ألوان الطيف السياسي الفلسطيني, وخاصة بين "فتح" و"حماس", رافضة أي مشروع توافقي، حيث عملت على إفشال كل شيء من هذا القبيل ناهيك عن تأييده. كيف يمكن أن ينجح أي حل جزئي أو شامل من دون أن يكون هناك توافق فلسطيني عليه؟ وكيف كان الحال منذ أوسلو، أي خلال الأربعة عشر عاماً الماضية، عندما كان طرف فلسطيني يعقد اتفاقات سلام وطرف فلسطيني آخر يمارس مقاومة؟ ينطبق ذات التحليل الذي يشترط حداً فاعلاً من التوافق السياسي على الطرف الإسرائيلي, ولو بأشكال ودرجات أخرى. إذ ليس سراً أن حكومة إيهود أولمرت تعاني من ضعف شامل، وهناك كثير داخل إسرائيل وخارجها يشككون في قدرة الحكومة الحالية على البقاء, فضلاً عن أن تكون مؤهلة للقيام بخطوات كبيرة على مستوى حل الصراع واتخاذ قرارات حاسمة. كيف إذن يأمل بوش من هذه الحكومة، أو يريد منها أن تقوم بما لم تستطع حكومات أقوى منها بكثير القيام به؟ الأمر الآخر المثير للشكوك، هو مصير مبادرة السلام العربية، وكيف سيتم التعامل معها في المؤتمر, على ضوء تركيز بوش في خطابه على ضرورة "إنهاء عدم وجود إسرائيل", أو عدم التعامل والاعتراف بإسرائيل من قبل البلدان العربية. فالتخوف هنا هو ذات التخوف التقليدي والذي ثبت أنه نمط رتيب في تدهور سقف الموقف العربي من دون أن يصعد الموقف الإسرائيلي لملاقاته في منتصف الطريق. فمن المتوقع أن يأخذ بوش على عاتقه, ويستخدم المؤتمر كرافعة دبلوماسية وزخم إعلامي, ليحصد ما تطرحه المبادرة العربية من موقف عربي مشروط بموقف إسرائيل من مسألة حل الدولتين على أساس الالتزام بقرارات الأمم المتحدة, فيأخذ من تلك المبادرة ما يشاء ويترك ما يشاء. وهكذا يصبح الموقف العربي الجماعي هو شبه الاعتراف الرسمي الجماعي بإسرائيل، لكن من دون أن يكون هناك أي موقف مقابل. لا تستطيع الدول العربية التي ستتم دعوتها إلى المؤتمر إلا أن تلبي الدعوة, لكن أمامها هامش مناورة كبير عليها أن تستثمره بحيث لا تتورط في تقديم موقف عربي جماعي مجاني جديد. المبادرة العربية هي كلٌ متكامل قدمت تنازلاً عربياً لإسرائيل لم تكن تحلم به, وهو التطبيع والاعتراف الشامل مقابل الالتزام بحل الدولتين وإحقاق الحقوق العربية. ليس هناك حاجة بعد تلك المبادرة لإعادة اختراع العجلة, عناصر الحل السياسي موجودة وواضحة. ما هو غير موجود ولا واضح، هو الالتزام الجدي عند واشنطن وتل أبيب. ما نراه هو عكس ذلك!