بعد عشر سنوات من أزمتها المالية الصاعقة، تبدو معظم دول الشرق الأقصى في وضع اقتصادي مريح، وبما يمكن معه القول إنها تجاوزت آثار وتداعيات تلك الكبوة نهائياً، وعادت تمارس بقوة طموحاتها في النهضة والرخاء والريادة على مختلف الأصعدة. فاحتياطي المنطقة من العملات الأجنبية يزيد اليوم على 3 تريليون دولار، ورؤوس الأموال المتدفقة عليها تفوق تلك المتوجهة إلى الدول المتقدمة بنحو ستة أضعاف، وصادراتها الخارجية تمثل حصة كبيرة ومتزايدة من إجمالي التجارة العالمية، ومعدلات نمو اقتصادياتها تتراوح ما بين 5 إلى 9 بالمئة. باختصار شديد تبدو المنطقة متجهة إلى ممارسة نفوذ اقتصادي ومالي هائل على مستوى العالم. وللتذكير فقط، نقول إن الأزمة النقدية الآسيوية بدأت في مثل هذه الأيام من عام 1997 وتحديداً من تايلاند التي تراجعت قيمة عملتها الوطنية (البات) أمام الدولار الأميركي إلى أدنى المستويات وبصورة مفاجئة وغير مسبوقة، لتتبعها في ذلك عملات معظم دول جنوب وشمال شرق آسيا، وليتسبب الحدث في انهيار أسواق المال والأعمال الآسيوية وتراجع قيمة الأصول، وبالتالي إفلاس العديد من المصارف والمؤسسات الاقتصادية وإفقار الملايين من أبناء الطبقة الوسطى. بل كان للحدث تداعيات مالية خطيرة، امتدت إلى أسعار النفط التي تراجعت إلى مستويات دنيا، وشعرت بها دول خارج المنظومة الآسيوية مثل الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والبرازيل وغيرها كنتيجة لترابط الاقتصاد العالمي. هذا ناهيك عن التداعيات السياسية التي كان من أبرز تجلياتها سقوط أنظمة عتيدة مثل نظام الجنرال أحمد سوهارتو الديكتاتوري في إندونيسيا، ورحيل حكومات مثل حكومة الجنرال المتقاعد القوي "تشافاليت يونغتشايود" في تايلاند. كنت بعيد وقوع الأزمة بفترة قصيرة في جولة آسيوية بدأت في تايلاند وانتهت في كوريا الجنوبية، فأيقنت أن ما حدث مجرد كبوة ستنهض منها المنطقة سريعاً، خلافاً لتوقعات الكثيرين، ومنهم مراقبون عرب ظهروا كمن كان ينتظر مثل هذا الحدث ليؤكد بشماتة أن النمور الآسيوية لم تكن سوى نمور من ورق. أما سبب يقيني فكانت مشاهد لا تخطئها العين في كل موقع، وكلها كانت تنم عن الإصرار والعزيمة على العمل من أجل تجاوز تلك المرحلة العصيبة وفق خطط عملية ومراحل مفصلة وإجراءات حاسمة لا مكان فيها للتردد والجدل العقيم. لم يكن ذلك بطبيعة الحال مستغرباً عند من عرف آسيا وعاش فيها. فميزة هذه الأمم الصفراء أنها تتعلم الدرس سريعاً وتحول إخفاقاتها في كل مرة إلى نجاحات مشهودة في فترة زمنية قياسية، يساعدها على ذلك منظومتها الفكرية والاجتماعية التي تقدس العمل بدلا ًمن الشعارات الجوفاء، وتفضل التخطيط العلمي على المشاريع المرتجلة، وتنظر إلى المستقبل عوضاً عن البكاء على الماضي ولبنه المسكوب أو الجدل العقيم حول الأمور الخلافية النافرة من بطون التاريخ. وهذا ما حدث بالضبط في تايلاند وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا والفلبين وكوريا الجنوبية وتايوان التي أصابها الضرر الأكبر، وإن بدرجات غير متساوية بحكم اختلاف هياكلها وقوتها الاقتصادية. حيث تمت المسارعة أولاً إلى تشخيص الأمراض التي أدت إلى الأزمة والاعتراف بها بعيداً عن المكابرة أو اللجوء إلى نظرية المؤامرة التي لم تتمسك بها سوى قلة قليلة، ثم جاء العلاج في صورة ضخ قروض ومساعدات لإنقاذ الشركات والمصارف من عثراتها، وإطلاق حزمة من الإصلاحات الاقتصادية والقانونية من أجل مجتمع مالي أكثر شفافية، مع تطبيق مجموعة من القواعد والإجراءات الهادفة إلى إعادة هيكلة بعض المؤسسات والأجهزة المالية، وضبط أعمال المصارف، وتحسين أداء الشركات، وخفض الإنفاق الحكومي، ورفع معدلات الفائدة، وفرض الرقابة على تحركات رؤوس الأموال، وغير ذلك مما اقترحته المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي الذي سارع إلى تخصيص قروض طارئة بعشرات المليارات من الدولارات لعدد من الدول الآسيوية المتضررة. على أن العامل الأكثر حسماً في سرعة نهوض هذه الأمم من كبوتها تلك، كان وجود ثروة بشرية مؤهلة تأهيلاً عالياً وقادراً على القيام بمستلزمات إعادة البناء وتصحيح الخلل، كنتيجة لاستثمار حكوماتها الطويل في التعليم وتنمية الموارد البشرية وإعداد الكوادر المتخصصة في شتى حقول المعرفة، وبصورة منهجية ومتوافقة مع حاجات العصر وتطوراته. ولسنا هنا بحاجة إلى إعادة التأكيد على أن المجتمعات الزاخرة بالكفاءات والطاقات والمواهب والعقول الخلاقة والمشبعة بقيم العمل والتكافل واحترام القانون، هي مجتمعات لا خوف عليها من الأزمات والكبوات مهما كانت تلك الأزمات صاعقة ومؤلمة. ونختتم بالحملات الإعلامية الجميلة التي دشنتها حكومات المنطقة في السنوات التالية مباشرة للحدث العاصف، من أجل خلق حالة من الثقة في أوساط العامة بالقدرة على الصمود وتجاوز ما وقع، والتي لعبت بالفعل دوراً في شحن النفوس بالأمل بفضل ما استثمر فيها من فنون وإبداع. من تلك الحملات ما قامت به حكومة "تشوان ليكباي" في تايلاند، التي نصبت يافطات كبيرة في الميادين العامة في طول البلاد وعرضها، لتعكس بالرسوم ظروف المرحلة وتفاصيلها وذلك عبر تقسيم كل يافطة إلى أربعة مربعات يحكي كل منها مشهداً وتطوراً نحو الخروج من الأزمة. ففي المربع الخاص بعام 1997 كان المشهد رعداً وبرقاً وعواصف كناية عن سوداوية الأوضاع، وفي المربع الثاني الخاص بعام 1998 تغير المشهد إلى أمطار رعدية كناية عن توجه الأحوال نحو الأفضل، وفي مربع العام التالي ظهرت السماء خالية إلا من بعض السحب. أما المربع الأخير الخاص بعام 2000 والذي خطط له ليكون عام وقوف الاقتصاد مجدداً على قدميه – وهو ما حدث بالفعل- فكانت تتوسطه شمس مشرقة كناية عن انتهاء المحنة.