لا يملك الذي يستمع إلى طرفَي الصراع في فلسطين؛ "فتح" و"حماس"، إلاّ أن يرفضَ المنطقَ نفسَه، لأنّ الطرفين مُصِرّان على أنَّ كلَّ ما حصل حتى الآن إنما تسبَّب فيه الطرفُ الآخَرُ بمفرده، فهو المسؤول، وعليه أن يتحمَّل نتائجَ ما فعل، وأن يُظهر توبةً نَصوحاً، لكي يفكِّرَ الطرفُ الآخرُ إذا كان مستعداً للعودة للتفاوض بشروطٍ جديدةٍ تتجاوزُ افتراضات وآليات المرحلة السابقة. تبدو "حماس" حتى الآن الأكثر اهتماماً بالناحية الإعلامية، ولجهة التواصُل مع العرب؛ بإظهار أنّ "الفتحاويين" هم المذنبون منذ البداية وحتى النهاية. فمنذ فوز "حماس" في الانتخابات وحتى الاستيلاء على غزة، كانت هناك خطة مبرمجة يقودُها أمثال محمد دحلان وياسر عبد ربه (بالاتفاق مع الإسرائيليين) لمحاصرة "حماس" وقطع كلّ إمكانيات استمرار حكومتها، وصولاً إلى القيام بهجوم مضادٍ من أجل إسقاطها وإلغائها؛ أياً تكن نتائجُ ذلك على القضية الفلسطينية، وعلى الشعب الفلسطيني. وإدراكاً من "حماس" لخطورة ذلك على فلسطين والشعب الفلسطيني، سعت بالتواصل المباشر، وبتوسيط المصريين والسعوديين، لتحقيق ثلاثة أمور: إقامة حكومة وحدة وطنية، وفكّ الحصار عن الشعب الفلسطيني، وصياغة برنامج وطني يعتمد على إعادة تشكيل "منظمة التحرير الفلسطينية" ودخول "حماس" فيها. أمّا ما حصل في غزّة فلم يكن سببُهُ خطةً مبرمجةً من "حماس"؛ بل تداعيات الأحداث التي افتعلتها العناصرُ المتآمرةُ من "فتح"، والتي قادت إلى اشتباكاتٍ يوميةٍ ما قدّرها حتّى خالد مشعل ولا انتظرها إلى أن حصل ما حصل من جانب القوة التنفيذية دفاعاً عن النفس. وهي مستعدةٌ أمس واليومَ وغداً للعودة إلى حكومة الوحدة الوطنية، وإلى اتفاقيات دمشق ومكة والقاهرة. ويجيب أنصار "فتح" بأنّ أبو مازن هو الذي أصرَّ على إجراء الانتخابات قبل عامٍ ونصف، واعترف لـ"حماس" بالانتصار، وسمح لها بتشكيل حكومةٍ بمفردها. وعندما اشتدّ الحصار على الشعب الفلسطيني، وأقدمت "حماس" -كما هو معروف– على خطف الجندي الإسرائيلي وما ترتّب على ذلك من تخريبٍ وقتْلٍ في غزّة، دفع باتجاه التفاوض لصنع شراكةٍ وطنيةٍ بين سائر الأطراف وبإشراف السعوديين والمصريين (والسوريين). وما كان ذلك اقتناعاً منه بأنّ الديمقراطية تقتضي ذلك؛ بل واقتناعاً بأنّ إسرائيل والولايات المتحدة، لن تُعطيا الفلسطينيين شيئاً بدليل ما فعلتاه منذ وفاة الرئيس عرفات عام 2004؛ بل ومنذ المبادرة العربية للسلام في قمة بيروت عام 2002. وروايةُ عبّاس وأنصاره تقول إنه بعد اتفاق مكة نبَّه مراراً في اجتماعات القاهرة، وفي التواصل مع المصريين والسعوديين، إلى أنّ "حماس" عندها خطابان: الخطاب الذي تتحدث به علناً ومع العرب، والآخر الذي تتحدث به مع أنصارها ومع "القوة التنفيذية" وهو خطابٌ أصوليٌّ واستئصالي. وقبل أسبوعين على اجتياح غزة من جانب "حماس" أطلع المصريين والسعوديين على الخطة لاغتياله، والاستيلاء على السلطة في غزة والضفة الغربية. وهم إنما قاموا بالاستيلاء على غزة عندما انكشفت مؤامرتهم، وأدركوا استحالة فعل الشيء نفسه في الضفة الغربية؛ فاكتفوا بإقامة الدولة "الطالبانية" في القطاع، بدلاً من فلسطين كلّها أو تمهيداً لذلك. أمّا ما حدث بعد الاستيلاء الدامي على غزة؛ فملخَّصُهُ الاستنكار المصري والسعودي والأردني والصمت السوري والقطري، والترحيب الإيراني. ثم عودة المصريين والسعوديين للدعوة للتفاوض والتوحُّد، وترحيب "حماس" بذلك؛ بينما أصرَّ أبو مازن على رفض العودة للتفاوض إلى أن تتراجع "حماس" عن إجراءاتها. وفي حين أعلنت "الرُباعية" والولايات المتحدة وإسرائيل عن الانفتاح على أبو مازن وحكومة سلام فياّض، ما حدث شيء كثيرٌ باستثناء الإفراج عن بعض أموال السلطة الفلسطينية، وإقبال الرُباعية على الاجتماع، ولقاء أبو مازن مع أولمرت، والإفراج عن 250 أسيراً فلسطينياً من أصل اثني عشر ألفاً! ومن جهةٍ أُخرى إعلان الرئيس بوش للمرة الأولى عن الدعوة لمؤتمرٍ دوليٍ بشأن القضية الفلسطينية في الخريف؛ فيما يُعتبر اعترافاً بالمبادرة العربية مع تعديلاتٍ طفيفة. إنّ المشكلة الآن أنّ الفلسطينيين ما انقسموا في تاريخهم، كما هم منقسمون الآن. وهذا الانقسام مزدوج؛ فهو داخليٌّ من جهة، باعتبار أنّ فصائل منظمة التحرير القديمة بقيادة "فتح"، مختلفةٌ مع "حماس" و"الجهاد الإسلامي" اختلافاً كبيراً في رؤية النزاع مع إسرائيل، وفي رؤية البدائل والحلول. فـ"حماس" ما تزال مصرَّةً على الكفاح المسلَّح، وعدم الاعتراف بأوسلو ونتائجه. ومن جهةٍ ثانية فإنّ الطرفين صارا جزءا من الصراع الدائر في المنطقة بين الولايات المتحدة من جهة، وإيران وسوريا والحركات والأحزاب المتحالفة معهما من جهةٍ أُخرى. فقد سعت الولايات المتحدة (ومعها إسرائيل) منذ ما قبل غزو العراق، لتهميش النزاع العربي/الإسرائيلي، والذهاب إلى أنَّ الصراع إنما هو بين الديمقراطية والاستبداد والإرهاب، وبين الأصولية من جهة، والحرية والتنمية من جهةٍ ثانية. وانتهى الأمر بعد الفشل في العراق، ونشوب النزاع مع إيران على عدة أمورٍ على رأسها البرنامج النووي؛ إلى تغيُّر هوية الصراع عما أراده الأميركيون، وأراده العرب. إذ هو الآن ذو شقين، كلاهما ذو وجه إسلامي؛ أحدهما داخليٌّ عربي/عربي بين الإسلاميين والأنظمة الحاكمة؛ والآخر إيراني/ أميركي، تزعم إيران أنه الشرق الأوسط الإسلامي في وجه الشرق الأوسط الكبير أو الأميركي، وتزعم الولايات المتحدة أنه الشرق الأوسط الجديد في مواجهة الأصولية والإرهاب وأسلحة الدمار الشامل! وقد قاد السعوديون منذ عام 2006 وحتى مؤتمر القمة العربي بالرياض قبل ثلاثة أشهر، محاولة لاجتراح سياسةٍ عربيةٍ مستقلّةٍ تعيدُ الاعتبار لقضية العرب الأولى، القضية الفلسطينية، بتجديد المبادرة العربية للسلام، والتواصُل مع الولايات المتحدة وإيران وسوريا وتركيا لإيقاف التفتُّت والانقسامات في العراق ولبنان وفلسطين، والتحدث إلى الأطراف الداخلية العربية المتنازعة ودفعها إلى حلّ نزاعاتها الأهلية والسياسية بالحوار والتضامُن وعدم اللجوء للعنف. وبدا لأول وهلةٍ وفي لبنان وفلسطين بالذات، أنّ اتجاهات المسالمة تحقّق تقدماً بارزاً كما في الحوار اللبناني/ اللبناني بواسطة الجامعة العربية، وكما في اتفاق مكة، واتفاقيات القاهرة. لكنّ الشهرين الأخيرين شهدا انتكاسات في فلسطين وفي لبنان، كما أنّ العنف ازداد في العراق، واضطر الأميركيون، كما اضطر المالكي رئيس وزراء العراق، للاعتراف بأنّ للإيرانيين (وليس للقاعدة والمتمردين الآخرين، بحسب التعبير الأميركي) دوراً متزايداً في ذلك. كما قال المصريون بعد اجتياح غزة إن للإيرانيين دوراً في الأمر. "فتح" وحماس والفلسطينيون إلى أين؟ يميل الطرفان في شهري يونيو ويوليو إلى تثبيت وقائع على الأرض. "حماس" بالاستيلاء على غزة، وأبو مازن في الضفة الغربية. وهناك الآن المبادرة العربية للسلام، والمؤتمر الدولي الذي دعا إليه الرئيس الأميركي. لكنّ الرئيس الفلسطيني ما عاد "شريكاً" كاملاً أو أوحد، ولا بد من استيعاب "حماس". لكن الذي يحولُ دون ذلك ليس الخلاف بين "فتح" و"حماس" فقط؛ بل إيران التي صارت شريكاً مُضارباً أيضاً إن لم يكن بشكلٍ مباشرٍ فمن خلال "حزب الله" في لبنان، ومن خلال نفوذها في العراق، ومن خلال نفوذها على "حماس" و"الجهاد الإسلامي". ولذلك ففي الوقت الذي يكون فيه على الأميركيين الضغط على إسرائيل للدخول في مفاوضاتٍ جديةٍ بالفعل بعد أن غادروا الطاولة معاً منذ عام 2000؛ يكون على السعوديين والمصريين والأردنيين إعادة ترتيب الوضع العربي، وتجديد الحديث مع إيران؛ وقبل ذلك وبعده إعادة العلاقات بين "فتح" و"حماس". فهل الأميركيون والإسرائيليون جادُّون؟ وهل يستطيع العرب المحتلة أرضهم أن يدخلوا معاً إلى المفاوضات؟ وماذا يحدث إن لم تتصالح "فتح" و"حماس"؟ وماذا يحدث إن لم تتحسن العلاقات السعودية/ السورية؟ وماذا يحدث أخيراً إن أشعل طرفٌ ما نزاعاً مسلَّحاً عبر الحدود قبل شهر أكتوبر؟ محمود أحمدي نجاد توقع من دمشق صيفاً حاراً وانتصارات، إنما على مَنْ؟ أخشى أن تكون علينا نحن العرب في العراق وفلسطين ولبنان كما كانت دائماً!