يوجد عدد كبير من الكتاب والصحفيين الغربيين، خاصة ممن يعيشون في الشرق الأوسط، سواء في فلسطين أو بلاد عربية أخرى، طوروا رؤى تحليلية لا تتسم بالسطحية كما هو الحال فيما يُنشر في الصحف الغربية المهمة، ولذا لا تجد هذه المقالات طريقها إلى النشر في مثل هذه الصحف. ففي مقالة لـ"جوناثان كوك"، وهو صحفي مقيم في الناصرة، بفلسطين، (نُشرت في الأهرام ويكلي 14-20 ديسمبر 2006) تحت عنوان "لليهود فقط". والمقالة بطبيعة الحال تفضح ما أسميه العنصرية البنيوية، أي العنصرية التي تشكل عنصرا أساسيا في بنية المجتمع ذاته. يقول الكاتب: إن إسرائيل في محاولة لإثبات حقها في البقاء ادعت أن الفلسطينيين راضون عن قيام دولة يهودية منعزلة خلف الجدار العازل؛ دولة ترعى حقوق اليهود فوق كل الطوائف الأخرى المختلفة العرق والدين والجنسية حتى ولو كانت تعيش في نفس المنطقة. وهذا يعني أن إسرائيل ترفض رجوع الملايين من الفلسطينيين ممن يعانون في مخيمات اللاجئين والتي أصبحت منازلهم ملكًا لليهود الآن. فإذا أُعطوا حق العودة ستتلاشى أغلبية الإسرائيليين على الفور، ومن ثم سيكون من المستحيل إدعاء أن هذه دولة اليهود. إلا إذا كانت ستصبح مثلما كانت جنوب أفريقيا العُنصرية دولة الأبارتايد (أي الفصل العنصري). وفي مقال آخر لنفس الكاتب بعنوان "هكذا يبدو الفصل العنصري"، يقول"جوناثان كوك" إن مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية صرح بأنه يوجد 528 نقطة تفتيش وحاجزا أمنيا في الضفة الغربية. وجاء في جريدة "هآرتس" الإسرائيلية أنه يوجد حوالي 75 نقطة تفتيش ثابتة و150 نقطة تفتيش متحركة وأكثر من 400 حاجز أمني يعترض الطرق. كل هذا بغرض شل الحركة في منطقة لا تتعدى مساحة كولورادو الولاية الأميركية الصغيرة. وترتب على ذلك أن تنقل الأشخاص والبضائع في الضفة الغربية أصبح كابوساً يتكرر كل يوم. ففي نقاط التفتيش تلك، يفسد الطعام ويموت المرضى، ولا يصل الأطفال إلى مدارسهم. وبعد أن فاحت رائحة الفضيحة العنصرية، وَعد رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت الرئيس الفلسطيني محمود عباس في ديسمبر الماضي بأنه سيقلل من معوقات التنقل في الضفة الغربية. وبالرغم من أن الجيش الإسرائيلي صرح بأنه تمت إزالة ما يقرب من 44 حاجزاً أمنياً تنفيذاً لوعد أولمرت، فإنه في واقع الأمر تلك الحواجز الأمنية التي صرحوا بإزالتها لم يكن لها وجود في الأساس. وفي مقال بعنوان "حق إسرائيل غير الأخلاقي في الوجود" لـ"جون وتيبيك"، وهو محام دولي، نُشرت في "الأهرام ويكلي"، يثير الكاتب قضية في غاية الأهمية، إذ يشير إلى أن ثمة صياغات لفظية يستخدمها رجال السياسة والإعلام، بل والدبلوماسيون مثل "الاعتراف بإسرائيل" و"الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود"، وكأنها مترادفة ومتساوية في المعنى، وهي صياغات في واقع الأمر مختلفة تمامًا ولها دلالات مختلفة. إن الاعتراف بإسرائيل، أو أي دولة، هو فعل قانوني دبلوماسي تقوم به دولة تجاه دولة أخرى. ومن العبث أن يُطلب من أي حزب سياسي أو حركة سياسية أن يعترف بدولة أخرى. ولذا نتحدث عن ضرورة أن "تعترف" حماس "بإسرائيل" هو موقف فكري مشوش وسطحي وظيفته إخفاء الطلب الحقيقي. وهنا تطرح عدة أسئلة، هي في واقع الأمر محاولة لكشف الأقنعة وما تحاول بعض الصياغات تخبئته. كم تبلغ مساحة تلك الدولة المطلوب الاعتراف بها؟ هل هي ما قررته الأمم المتحدة عام 1947 بأن 55% من مساحة فلسطين لدولة اليهود؟ أم 78% من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1948 والتي يعرفها العالم الآن باسم إسرائيل؟ أم 100% التي احتلتها إسرائيل منذ عام 1967 وتوجد على الخريطة باسم إسرائيل في الكتب الدراسية الإسرائيلية؟ إن إسرائيل لم تعرّف حدودها أبداً. وإذا كان المطلوب من "حماس" الاعتراف بدولة إسرائيل، فلابد أن تعرف "حماس" حدود تلك الدولة". (أتيحت لي فرصة الاجتماع بأول مستشار أمن قومي للرئيس نيكسون حين انتخب في الدورة الأولى، وسألني ماذا تريدني أن أنقل إلى الإسرائيليين، فأخبرته أنهم عليهم أن يوضحوا رؤيتهم ويبينون للعالم ماذا يريدون. هل يريدون دولة حسب رؤية مارتن بوبر، أي دولة ديمقراطية تسمح للعرب أن يعيشوا فيها، أم دولة بن جوريون التي تستخدم القوة لتتوسع إلى أن تقف في نقطة ما يشعر الإسرائيليون أنها كافية لحماية أمنهم القوي، أم إسرائيل بيجن التي لا تعرف الحدود والتي تمتد أحياناً من النيل إلى الفرات والتي تصر على ضم الضفة الغربية وترى أنه يمكن إخضاع العرب بالقوة!). إن الاعتراف بإسرائيل يبدو لأول وهلة كما لو كان كلاماً منطقيا لا تجوز مناقشته، وكأنه مجرد اعتراف بإحدى حقائق الحياة كالموت والضرائب. ولكن ثمة مشاكل عملية خطيرة تتضمنها هذه الصياغات اللفظية إذ يجب طرح السؤال التالي: أي إسرائيل سيتم الاعتراف بها؟ هناك فرق كبير بين "الاعتراف بوجود إسرائيل" و"الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود والبقاء". إن الاعتراف بوجود إسرائيل هو صياغة ملتفة تخبئ أكثر مما تفضح. أما من منظور فلسطيني. فالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود والبقاء مثله مثل أن تسأل يهودي أن يعترف بأن الهولوكوست قد حدث بالفعل، أو أن يعترف بأنه صحيح أن الهولوكوست قد حدث. وأن يُطلب من الفلسطينيين الذين يُعاملون أسوأ معاملة منذ 60 عاماً أن يعترفوا بدولة إسرائيل، فهم يعترفون بل ويقبلون أنهم مجموعة وضيعة من البشر تستحق تلك المعاملة! وجاء في مقال "جوزيف ماساد" بعنوان "هدم الديمقراطية" (الأهرام ويكلي 28 يونيو- 4 يوليو 2007) إن أعداء الشعب الفلسطيني يهاجمونهم على كل الجبهات، فهناك محكمة التفتيش ضد الفلسطينيين، وضد عزمي بشارة وكل المقاومة بطبيعة الحال. وهناك قيادة "فتح" التي تساندها الولايات المتحدة. حقاً إن هدم الديمقراطية في الشرق الأوسط أصبح الركيزة الأساسية لسياسة الولايات المتحدة منذ أن قامت وكالة الاستخبارات المركزية بمساعدة حسني الزعيم في سوريا عام 1949 في القيام بانقلاب عسكري أطاح بالديمقراطية في سوريا. والقائمة بعد ذلك طويلة: دعم الولايات المتحدة للانقلاب الذي دبّره شاه إيران عام 1953 ضد حكومة مصدق هدم تجربة الأردن في الليبرالية البرلمانية عام 1957 من خلال انقلاب دبّره القصر- تضامنت المخابرات الأميركية مع "البعثيين" في العراق عام 1963 ضد عبد الكريم قاسم، إلخ. ولم تقتصر سياسة أميركا على هدم الحرية والديمقراطية في المنطقة وحسب، بل امتدت إلى التخطيط والتحريض على الحكم الديكتاتوري، وتدريب الحكام ممن يتسمون بالظلم والاستبداد وتوظيفهم. ووسط كل هذا نجد المحللين من الغرب وأعوانهم من العرب والفلسطينيين "العلمانيين" (أي الموالين لأميركا) يقدمون أوهاماً عمّا يسمى استثنائية القضية الفلسطينية. إن الولايات المتحدة تخصصت في التعاون مع حكومات لا تمثل شعبها، وتخدم المصالح الأميركية. الاستثناء الوحيد الذي يُقدمه الشرق الأوسط إلى العالم هو كثرة المطامع الاستعمارية بسبب البترول وتضامن العالم الغربي الاستيطاني مع الاستعمار اليهودي وكلاهما مرتبط بالآخر بشدة. ليس العالم العربي هو الاستثناء بل الاستراتيجية الأميركية المتبعة في المنطقة. الاستثناء الوحيد الذي يقدمه الشرق الأوسط هو الاهتمام الذي يتخطى كل الحدود الذي يبديه الاستعمار الاستيطاني الغربي. ويُعرف "سيجموند فرويد" ما يسميه بـ"الإسقاط" هو أن ينسب الشخص دون إدراك كل أفعاله وأفكاره إلى الآخر. هذه العملية بالنسبة لـ"فرويد" غير واعية، لكن الحال مع أعداء الفلسطينيين وأميركا التي تساندهم ليس كذلك، فحين ينسبون كل جرائمهم إلى "حماس"، فإنها استراتيجية إدراكية تعد جزءاً لا يتجزأ من سياستهم لهدم الديمقراطية الفلسطينية. والله أعلم.