في زيارة دامت عشرة أيام لبعض المعاهد الأوروبية لدراسات الشرق الأوسط والجامعات المنتمية لأكبر المؤسسات الدينية لتعزيز الحوار بين الضفتين الشمالية والجنوبية للمتوسط، وبناءً على التجارب الحية وليس تحليل الوثائق والبيانات والإحصائيات والمصادر والمراجع، يمكن القول بأن المشكلة نفسها مازالت باقية لم تتغير، مشكلة الحوار العربي الأوروبي أو حوار الشمال والجنوب أو حوار الإسلام والغرب... كما جرت العادة في التسمية الجديدة. ويقصد بالإسلام المسلمون، وبالغرب الدول الغربية على اختلاف نظمها السياسية ومواقفها إزاء الهجرة من المغرب العربي. ليست القضية هي الخلاف حول جدول الأعمال، الاقتصاد في الجانب الغربي؛ أي فتح الأسواق وتنظيم العمالة المهاجرة وإسقاط الحواجز الجمركية طبقاً لقوانين السوق والمنافسة الحرة، وكذلك طبقاً لما تفرضه العولمة حالياً... والسياسة في الجانب العربي؛ وفي مقدمتها فلسطين والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وانسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 بما في ذلك القدس. وليست القضية أيضاً تعارض المصالح بين الشمال والجنوب، الشمال يريد السيطرة كشرط للتنمية، والجنوب يريد التنمية دون شروط مع المحافظة على الاستقلال. ليست القضية هي الحوار على الأمد القصير والمصالح العاجلة كما يريد الغرب، أو الحوار الاستراتيجي على الأمد الطويل في شراكة تقوم على الجوار والتعاون الإقليمي كما يريد العرب. وليست القضية هي الخلاف الثقافي والحضاري في رؤى العالم والإدراك المتبادل بين الطرفين القائم على صراع تاريخي مايزال يؤثر في اللاشعور منذ الحروب الصليبية حتى الاستعمار الحديث... بل القضية هي اعتراف أوروبا بالآخر، والتسليم بوجود طرف محاور متكافئ. فأوروبا لا تعترف إلا بنفسها، ولا تحاور إلا ذاتها. هي الطرف والطرف الآخر في نرجسية حضارية تاريخية شديدة. الآخر هو مجالها الحيوي والمحقق لحاجاتها، وامتداد نشاطها. أوروبا هي الأنا والآخر، الذات والموضوع، الشمال والجنوب، الموافق والمعارض، المماثل والمختلف... فكل ذلك يقبع في اللاوعي الأوروبي المتراكم عبر التاريخ منذ أن أصبحت أوروبا مركزاً للعالم بعد سقوط غرناطة عام 1454، والذهاب إلى ما وراء الأطلسي نحو نصف الكرة الغربي وإلى جزر الهند الشرقية أي نحو نصف الكرة الشرقي. وامتدت جنوباً إلى أفريقيا بدعوى اكتشافها. أصبحت أوروبا مركزاً جغرافياً للعالم وتراكماً حضاريا في التاريخ، وإبداعاً علمياً بعد ترجمة العلوم العربية والإسلامية قبيل عصر النهضة. واستند ذلك كله إلى عنصرية بيضاء تقوم على التفرقة بين البشر طبقاً للون البشرة؛ الأبيض والأسود والأسمر والأصفر. وصاغت النظريات العنصرية في طبيعة الأجناس البشرية وخصائصها النفسية والثقافية في علم نفس الشعوب والذي بلغ أوجه في القرن التاسع عشر، أي مع ذروة الاستعمار الأوروبي. فالجنس الأبيض الآري هو الذي له حق السيادة على باقي الأجناس السامية الأخرى. ولا يختلف الاختيار العرقي والتفوق في الأجناس عن الاختيار الإلهي الذي غذته اليهودية في صياغتها الصهيونية بعقائد "شعب الله المختار" و"أرض الميعاد" و"المدينة المقدسة" و"المعبد" و"الهيكل"... ومايزال هذا الدافع وراء الغزو المستمر من جانب أوروبا لغيرها، والانتشار خارج حدودها. فالعالم كله مجالها الحيوي، وإسرائيل مركزه. والعالم الجديد، أي أميركا، خير وريث لها، بلا تاريخ ولا جغرافيا. ووقع التنافس بين العالم القديم والعالم الجديد. كل منهما لا يعترف بالآخر في اللاوعي الشعوري رغم التعاون الخارجي والأحلاف والحروب المشتركة. أوروبا هي التاريخ، والولايات المتحدة هي الجغرافيا في نظر الأوروبيين. وأميركا هي القوة والمركز الجديد لإمبراطورية ممتدة إلى كل أرجاء المعمورة، بما في ذلك أوروبا القديمة. أميركا هي الفتى الشاب الذي يرث أوروبا العجوز. وإسرائيل في قلب الاثنين، والقرابة المشتركة بينهما. في طريقة الاستقبال والتوديع، مايزال العربي الوافد، الطرف الثاني للحوار، هو الغريب القادم. على وجهه ينعكس العنف والإرهاب والهجرة والبحث عن العمل والرزق والكسب. وجوده خطر، وحضوره يقضي على الهوية الأوروبية ويهدد تماثل أوروبا مع نفسها... حضر كي يتم الحوار ولكنه حضور مهمش، زائد، ولمجرد إكمال الشكل، واستيفاء العدد. لا يسمع الأوروبي ولا يريد أن يعرف أو يعي أن العالم يتغير، وأن ميزان القوى يتبدل. لم يعد لديه شيء يقوله. نسي تاريخه، وفقد ذاكرته. يقرأ من ورق. ولا ينظر إلى الآخرين لأنه لا يرى إلا نفسه، ولا يتحدث إلا إلى ذاته. لم تعد له قضية إلا الاستمرار في الصدارة بخلق أساطير جديدة؛ مثل "ما بعد الحداثة"، و"العولمة"، و"ثورة الاتصالات"، و"العالم قرية واحدة"، و"صدام الحضارات"، و"نهاية التاريخ"... ومهما حاول الطرف الآخر التوضيح والكشف عن البديل وفتح آفاق جديدة للتفكير، فإن الرسالة لا تصل. وإن وصلت اندهش الأوروبي من هذا الذي يعيد للأوروبي ذاكرته وهو في بداية عصوره الحديثة، النهضة والتنوير، وكأنه يسمع جديداً ويعجب بهذا الصوت الحالم البعيد الذي مايزال في بداية الطريق ومايزال أمامه شوط بعيد كي يقطعه. ولا يمثل خطراً مباشراً عليه إلا في الخيال ومعارك الصور الذهنية والبدائل الحضارية. إن معركة التحرر لم تنته بعد. فليس الاستعمار فقط هو الاحتلال العسكري والاستغلال الاقتصادي، والتبعية السياسية بل هو أيضاً الهيمنة الثقافية والسيادة الحضارية. فإذا كان المغلوب مايزال مولعاً بتقليد الغالب، فإن الغالب أيضاً لم يتخل عن تصوره للمغلوب، أنه كان سيداً عليه في الماضي بالاحتلال العسكري، ومايزال سيداً عليه في الحاضر في التنمية والمساعدات الخارجية. وسيظل سيداً عليه في المستقبل نظراً لأبدية العلاقة النفسية والذهنية بين السيد والعبد. لم تتغير صورة الغالب عن نفسه حتى بعد مرحلة التحرر الوطني واستقلال الشعوب. وصورة المغلوب الذي أصبح غالباً في ذهنه، لم تتغير. ومهما حاول الجنوب التحرر مجدداً من هذا الأسر التاريخي، ومهما حاول العربي إثبات وجوده كطرف محاور فإنه سيظل يتحرك في المكان. لقد أخذت أوروبا في بداية عصر نهضتها العلم والحضارة منه وأنكرته بل وأعطته الهيمنة والاستعمار بكل أشكاله القديمة والجديدة. ومهما حاول العربي أن يُسمع صوته ويبين رؤية الجنوب إلى الشمال، مقابل رؤية الشمال للجنوب فإن الشمال لا يسمع لأنه لم يتعود على أن يكون موضوعاً للرؤية. أوروبا هي التي ترى وتلاحظ وتحلل. وغيرها هو الموضوع. هو الذي أنشأ المتاحف ووضع حضارات الآخر فيه. هو الذي أنشأ الدراسات الصينية والهندية والفارسية والبابلية والآشورية والمصرية القديمة والعربية والإسلامية. أما هو نفسه فهو ليس موضوعاً للدراسة. لا يوجد متحف لأوروبا، فأوروبا ذات وليست موضوعاً. مازالت حية، وباقية إلى الأبد، لا تموت حتى تصبح موضوعاً للمتاحف والأثريات. تحتاج أوروبا إلى يقظة جديدة بدلاً من العدم الذي وضعت نفسها فيه، والثبات على المركزية، ونسيان ذاكرتها التاريخية. تحتاج إلى وعي بمكوناتها الخارجية، من العرب والمسلمين والشرق القديم الذي صب في اليونان. تحتاج إلى العودة إلى نهضتها الأولى وتنويرها وهي في ذروتها مع التخلي عن ازدواجية المعايير. التنوير والعقلانية والعلم والتقدم والحرية والديمقراطية داخلها، ونقيضها من جهل وخرافة وأسطورة وتخلف وقهر وتسلط خارجها. إن مسار التاريخ يتغير بين المركز والأطراف، وميزان القوى يتبدل بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب. الآن تنهض آسيا ممثلة في اليابان وكوريا وماليزيا وإيران وتركيا. وتنهض أميركا اللاتينية ممثلة في فنزويلا والبرازيل وشيلي. والعدوى قادمة إلى الوطن العربي؛ بداية بتخلي الحكم العسكري في موريتانيا عن سلطته في انتخابات حرة. وتعود حركات التحرر الوطني من جديد في مرحلة ثانية لاستعادة سلطة الدولة الوطنية المستقلة، اعتماداً على حركة الشعوب وتكوين نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، للتحرر من نظام الأحادية القطبية... مايزال التحول في البداية، ويقولون متى قل عسى أن يكون قريباً.