يعيش العالم كله حالة قلق وتربص مما قد تسفر عنه الشهور القادمة من أحداث كبرى يكون لها تأثير كبير على مستقبل البشرية التي باتت منذرة بفقد الأمان والاستقرار، وقد يصل الإنذار إلى ابتلاء البشرية بحروب مدمرة كتلك التي صنعها المجانين الكبار في النصف الأول من القرن العشرين. وإذا ما أصر قادة البيت الأبيض الحاليون الذين تقودهم إسرائيل، على خيارات الحروب، فإنها تنذر البشرية بفقدان كل ما أنجزته من استقرار ورخاء اجتماعي بعد الدروس المفجعة التي كان ينبغي أن تتعلمها من نتائج حماقات صناع الحروب. ولئن كنا ندرك أن إسرائيل تحتاج إلى الحرب، لأنها تخاف من السلام، وأن الولايات المتحدة وقعت في قبضة إسرائيل ولم تعد تملك رؤية استراتيجية خاصة بها وبمصالحها، بل باتت تنظر إلى هذه المصالح وإلى الكون كله بعيون إسرائيلية، فإن الأمر المدهش أن تفقد بعض الدول الأوروبية رؤيتها الخاصة، وأن تزج بنفسها في مواقف تناقض ما أعلنته من قيم ومبادئ بعد ما ذاقت ويلات حربين مدمرتين في القرن العشرين، وأن تدع إنجاز البشرية الأهم، في مجال حفظ الأمن (هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن)، يتعرض لسيطرة مطلقة من قبل الولايات المتحدة التي فقد قادتها البوصلة التي تدلهم على الطريق الأرحب لجذب الشعوب وجعلها تلتف حولها عبر قناعة بدور حضاري لها. والمؤسف أيضاً أن الولايات المتحدة حولت نفسها إلى جندي يخدم في الجيش الإسرائيلي، مهمته الوحيدة أن يحقق مشروع إسرائيل في إبادة الشعب الفلسطيني وفي تدمير قوى شعب العراق، وفي إشاعة الفوضى في لبنان ونشرها في كل المنطقة العربية والإسلامية تحت يافطة "الشرق الأوسط الكبير"، الذي تريد واشنطن أن تجعله ضعيفاً مجزأً ومثقلاً بحروب أهلية، جاهزاً لإعلان الولاء لإسرائيل التي تريد أن تصبح دولة عظمى وسط دول صغيرة متناحرة. والعرب يدركون خطر هذا المخطط، وهو ليس أمراً جديداً عليهم، فقد سعت دول أوروبية منذ مطلع القرن العشرين لتفتيت الوطن العربي، وتقاسمته بعد انهيار الدولة العثمانية، مما أتاح للصهيونية أن تعلن عن قيام دولتها في فلسطين. وقد تصاعد الدعم الأوروبي لذلك الكيان وأضيف إليه دعم أميركي مطلق، من دون أية وقفة أوروبية أو أميركية حكيمة تسأل: ثم ماذا بعد؟ ماذا يريد الإسرائيليون أكثر مما فعل من أجلهم الأوروبيون والأميركيون؟ هل يريد الإسرائيليون إبادة كاملة لأربعة عشر مليون فلسطيني؟ إن كان الإسرائيليون يتمنون ذلك، فهل يشاركهم الأميركيون والأوروبيون أمنيتهم؟ أعتقد أن شعوب أوروبا وأميركا لا تريد ذلك، فقد عبرت هذه الشعوب عن ضيقها الشديد بتنامي نفوذ الصهيونية في العالم كله، ووقفت في مراحل كثيرة تنادي بضرورة تطبيق قرارات الشرعية الدولية، لكن قادة هذه الشعوب وقعوا في أسر الصهيونية، وصاروا ينفذون مخططاتها على حساب مصالح شعوبهم. وبوسعنا أن نسأل قادة دول "التحالف": أية مصلحة لهم في طوفان الدم العراقي اليومي؟ وماذا أفادهم تحول العراق إلى بحر دماء؟ وما الأهداف التي يحققونها من قتل وإبادة مليون عراقي، ومن تشريد ملايين العراقيين الذين فقدوا الأمن في بلدهم؟ ولئن كان الهدف هو التخلص من صدام فقد انتهى صدام، وإن كان الهدف إضعاف قوة العراق المزعومة، فقد بات العراق خراباً، وإن كان الهدف المزعوم الآخر هو مكافحة الإرهاب، فأي إرهاب أخطر من وجود مائتي ألف جندي، يقتحمون البيوت ويقتلون الرجال والنساء أمام أطفالهم، ويدمرون المنازل، ويبيدون قرية كاملة بحجة البحث عن إرهابي واحد، ولا أدري كم عراقياً قتل من أجل أن تجد قوات الاحتلال طريدها الزرقاوي مثلاً! ولولا وجود الاحتلال ما وجد مثل الزرقاوي بيئة لما تم افتعاله من جرائم إرهابية كان هدفها الوحيد التشويش على المقاومة وخلط الحابل بالنابل. العمليات الإرهابية التي يشهدها العراق، هي نتاج الاحتلال بل هي من تخطيط الصهيونية التي تريد للعرب أن يغرقوا في بحور دماء الحروب الأهلية. واليوم يزداد القلق العالمي والتخوف من أن تمعن الولايات المتحدة في عنادها، وأن تصر على تنفيذ مشروعها التخريبي المسمى "الشرق الأوسط الكبير"، وقد بدأت آليات تنفيذه في العراق وفي فلسطين وفي لبنان، وأول هذه الآليات إبادة المقاومة، وقتل إرادة التحرر عند العرب، ووضع دول المنطقة وشعوبها في حالة لا تتيح لها غير الإذعان والاستسلام... وبعض العرب ينفذون هذا المشروع عن وعي أو غير وعي بأنهم هم أول من سيدفعون ثمنه الباهظ. ودروس التاريخ القريب جديرة بأن يتأملها كل من يصدق وعود الإسرائيليين. لقد أعطاهم ياسر عرفات، بدافع إيجاد حل سلمي فوق ما كانوا يحلمون به، ولكن عندما تمسك بحق الفلسطينيين في العودة وبحقهم في القدس وبحقهم في الأرض... قاطعوه وعزلوه وأخيراً قتلوه. وقد وعدوا الفلسطينيين آلاف الوعود ولم ينفذوا منها شيئاً، بما في ذلك وعد بوش بإقامة دولة فلسطينية. والعجيب أن السعاة الأوروبيين الذين حملوا "خريطة الطريق" لإيجاد حل عادل وشامل للصراع، باتوا سعاة بريد يحملون مطالب إسرائيل ورسائلها المنذرة للأمة العربية. ونحن في سوريا ما نزال نصر على خيار السلام، وقد أوضح خطاب القسم الذي أداه الرئيس بشار الأسد في بدء ولايته الدستورية الثانية، آليات عملية لمتابعة المفاوضات، لكن على العرب جميعاً ألا يطمئنوا إلى الوعود الأميركية، فقد فقدت شعوبنا الثقة بالموقف الأميركي، مثلما فقدت الثقة بقدرة القادة الأوروبيين على اتخاذ مواقف عادلة وهي ترى صمت أوروبا على ما تفعله الولايات المتحدة في العراق من قتل وتدمير يومي، وترى كيف أن بعض هؤلاء القادة لا يملكون برنامجاً خاصاً بهم وإنما هم ينفذون برامج عمل الولايات المتحدة، وهي برامج تصاغ وتبرمج في إسرائيل أو بيد اللوبي الصهيوني العالمي، وقد باتت هذه البرامج والخطط تدميرية، لأن إسرائيل التي لم تعد قادرة على تحقيق أهدافها في التوسع ونشر النفوذ عبر الحرب السريعة الخاطفة، هي غير قادرة حتى الآن على الدخول في عملية سلام جادة، لأنها تريد الاحتفاظ بالأرض وتريد معها استسلاماً عربياً. وإذا كان هناك في العرب من لا يمانع في أن يتحول إلى مستخدم صغير عند الصهيونية، فإن ملايين العرب قادرون على التصدي لهذه الأماني الإسرائيلية الوهمية التي تحطمت في الصيف الماضي على أيدي المقاومة اللبنانية، وهي في كل يوم تتحطم على أيدي المقاومة الفلسطينية التي باتت قوتها الكبيرة في قدرتها على التضحيات دفاعاً عن الحقوق الفلسطينية، وما تشهده الساحة الفلسطينية حالياً من أحداث مؤسفة، هو بسبب غياب دور حقيقي لأميركا ولأوروبا من أجل تحقيق الوعود التي أعلنها بوش وحلفاؤه ثم تخلوا عنها. وتجربة أوسلو خير شاهد على كذب الوعود التي يخطئ من يصدقها. إن علينا ونحن نمد أيدينا للسلام أن نتمسك بخيار آخر هو من أجل السلام أيضاً، إنه خيار المقاومة التي تجعل إسرائيل مضطرة للقبول بقرارات الشرعية الدولية، ونحن لا نطلب أكثر من ذلك.