أشهرٌ من الفوضى تنتظر المسافرين في المطارات البريطانية. هكذا أعلنها رئيس الوزراء البريطاني الجديد "جوردون براون"، ليعلم من لا يعرف أن الهجمات الإرهابية الفاشلة في لندن وجلاسجو خلفت وراءها مزيداً من التشدد في الإجراءات الاحترازية. وقد يترتب على المزيد منها ما هو أكثر من ذلك على صعيد حرية الأفراد الشخصية وليست فقط العامة. ومع الفرق الكبير بين وضعي بريطانيا ومصر، تستعد القاهرة الآن لإصدار قانون جديد لمكافحة الإرهاب، يفرض مزيداً من القيود على الحريات، الأمر الذي يرجح أن يكون مصدراً لجولة جديدة في معركة العلاقة بين الأمن القومي والحرية، والتي احتلت مساحة واسعة في الخلاف الذي احتدم حول تعديل الدستور المصري قبل عدة شهور، على نحو لم تشهده مصر حتى في اللحظات العصيبة التي بلغ فيها الخطر الناجم عن الإرهاب ذروته. فقد تضمن التعديل الدستوري استحداث نصٍ أثارَ قلقاً غير مسبوق على بعض من أهم الحريات التي كان الدستور يحميها، تمهيداً لاستصدار القانون الجديد لمكافحة الإرهاب، تحت شعار منح السلطات الأمنية حرية حركة في العمل الوقائي لحماية أمن المجتمع وأفراده. وهكذا وضع هذا النص الجديد (المادة 179 في الدستور) الحرية في مقابل الأمن وبشكل مباشر. تنص هذه المادة على استثناء ما أسمته "جرائم الإرهاب" من الإجراءات المنصوص عليها في كل من الفقرة الأولى من المادة 41 والمادة 44 والفقرة الثانية من المادة 45 من الدستور نفسه. وتتعلق هذه المواد التي باتت معطلة بموجب المادة 179، بضمانات أساسية كان الدستور يكفلها لأي مواطن يتعرض للاتهام، مثل اشتراط أن يصدر أي إجراء لتقييد حريته من القاضي المختص أو النيابة العامة دون غيرهما، وحظر دخول المساكن أو تفتيشها من دون أمر قضائي مسبب، وتأكيد حرمة الحياة الخاصة للمواطنين. وتختلف هذه المعركة حول العلاقة بين حرية الإنسان وأمنه عن غيرها من المعارك التي آثارها تعديل الدستور المصري في أنها لم تصل إلى نهايتها بعد رغم إقرار ذلك التعديل بشكل نهائي. وتثير هذه المعركة، في مصر، وما يحدث في بريطانيا وبلاد أخرى أيضاً، السؤال القديم عن العلاقة بين أمن الإنسان وحريته، وما إذا كان هناك تعارض بينهما، ومدى هذا التعارض حين ينشأ، ومن الذي يرسم الحدود بين حق الفرد في الخصوصية وواجب الدولة في الحفاظ على السلامة العامة، أو بين الحرية الخاصة وما يطلق عليه الخير العام، وما الذي يضمن أن يكون هذا الخير عاماً بالفعل، وكيف يمكن الحد من ميل الحكومات التسلطية إلى استخدام مفاهيم مثل الخير العام والمصلحة العامة والضرورة الأمنية لإخضاع المواطنين لقيود قاسية وإرغامهم على التخلي عن خياراتهم وتفضيلاتهم والقبول بما يُفرض عليهم؟ لقد شاع الاعتقاد حتى وقت قريب في أن الإجابة على هذا السؤال المركب تصنعها عملية تاريخية تشهد تطوراً باتجاه وضع يجمع فيه الإنسان بين حريته وأمنه، فلا يضطر للتضحية بحقوقه الفردية لضمان سلامته. غير أن المسار العام لهذا التطور تعرض لارتباك شديد منذ هجمات 11 سبتمبر التي غيرت الكثير في عالمنا. لكن أخطر ما ترتب عليها أمران: أولهما مراجعة الاعتقاد الذي شاع لعقود قبلها في أن التطور نحو الحرية يسير في اتجاه واحد، على أساس أنه انطوى على تفاؤل زائد، وأن الضعف الإنساني قد يجعل هذه الحرية ترفاً يجوز الاستغناء عنه في اللحظة التي تتعرض فيها سلامة المرء لتهديد خطير. وثانيهما إظهار أن الفرق في ذلك ليس كبيراً بين بلاد بدا أن الحرية فيها صارت راسخة وأخرى في مراحل مبكرة على طريق تحرير الإنسان الفرد من التسلط السياسي. فإذا كان عموم المصريين عزفوا عن رفع صوتهم إزاء تعديل دستوري يعطل ضمانات أساسية لحرية وخصوصية لم تصبحا راسختين بعد في مجتمعهم، فقد سبقهم إلى ذلك الأميركيون المفطورون عليها في حياتهم اليومية والمعتادون على ممارستها. وهكذا تصرف الأميركيون مثل أي شعب حديث العهد بالحرية عندما صدمتهم هجمات 2001 فازداد طلبهم على الأمن إلى مستوى فاق حرصهم على الحرية والخصوصية. ومن أهم الكتابات التي عبرت عن ازدياد طلب الأميركيين في ذلك الوقت على الأمن، مقالة ساخرة ولكنها عميقة المغزى نشرتها صحيفة "هيرالد تريبيون" الدولية للكاتب الأميركي "ارت بوتشوالد" في آخر نوفمبر 2001، رسم فيها صورة موحية لسكان الحي الذي يقطنه وقد طغت عليهم الهواجس الأمنية فجعلتهم مرضى مصابين بالخوف من كل ما يحيطهم. فقد وجد "بوتشوالد" نفسه مراقباً من جيرانه الذين راقب كل منهم الآخر بطريقته، فلم يستطع أن ينجو بنفسه من الخوف المرضي الذي يتحول إلى عدوى في مثل هذه الظروف. وإذا كان هذا هو حال الأميركيين الذين توطدت لديهم دعائم الحرية على مدى أكثر من قرنين، فمن اليسير فهم لماذا يصم المصريون آذانهم إزاء صرخات معارضي التعديل الدستوري الذي يعلي من شأن الأمن على حساب حرية لم تكتمل ملامحها أصلاً. لذلك ربما يصح أن نعيد صوغ السؤال الذي بدأنا به عن العلاقة بين حرية الإنسان وأمنه، لكي يتسع للاستفهام عما إذا كان إعلاء الأمن على الحرية حين يتعرض المرء لخطر هو جزء من الطبيعة البشرية. وهل يعني ذلك أن الحرية ليست أكثر من مطلب ثانوي للإنسان يستطيع التخلي عنه طواعية عندما يحصل عليه أو يصبح قريباً منه. فإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فلابد من مراجعة القراءة الليبرالية لتاريخ البشرية، انطلاقاً من "نظرية العقد الاجتماعي" التي تقول إن الإنسان قبِلَ تاريخياً التضحية بجزء فقط من حريته التي كانت له في فجر التاريخ هرباً من حياة الغابة التي يفتك فيها الأقوى بالأضعف، ليعيش ضمن جماعة توفر له الأمن والحماية، ولكنه أُرغم على التخلي عن حريته كاملة عندما نشأت السلطة المنوط بها تحقيق الأمن فطغت واستبدت وصادرت كل حرية. ومؤدى هذه القراءة أن الإنسان فقد حريته تاريخياً بشكل قسري لأنه لم يتخل طواعية إلا عن جزء فقط منها هو الذي تلزم التضحية به لإيجاد مجتمع تحكمه سلطة تنظم العلاقات بين أعضائه. فهل يدفعنا ما يحدث الآن إلى مراجعة هذه القراءة والتساؤل، بالتالي، عما إذا كان الإنسان البدائي تخلى عن حريته كلها طواعية وليس قسراً، بما يعنيه ذلك من إسقاط التفاؤل التاريخي بمستقبل الحرية؟ وإلى أن نجد إجابة مقنعة يظل القاسم المشترك في تاريخ البشرية هو الاستعداد للتخلي عن الحرية من أجل الأمن. ولعل هذا دليل آخر على أننا لم نصل إلى نهاية التاريخ، بخلاف ما ظنه بعضهم عقب إسقاط "الستار الحديدي"، بل ربما مازلنا في بدايته.