ما هي نسبة أن يكون هناك سلام في المنطقة خلال السنتين القادمتين؟ الإجماع في المنطقة، بل وفي عواصم الدول التي تتعاطى مباشرة مع موضوع السلام المنتظر، بما في ذلك واشنطن والدولة اليهودية، أن هذه النسبة قد تقل عن الصفر بشيء ليس بالقليل. حسنا ما هي هذه النسبة خلال الست سنوات المقبلة، وهي فترة تشمل ولاية الإدارة الأميركية القادمة؟ في ظني أن أحداً لن يستغرب إذا قلت بأنها لن تقل بأي حال من الأحوال عن النسبة التي قبلها. هذا، لمن قد تداعبه الفكرة، ليس تشاؤماً على الإطلاق، بقدر ما أنه اعتراف بواقع حال المنطقة، وحال حلم السلام فيها خلال المستقبل المنظور. والسبب وراء ذلك بسيط جداً. العرب، بما فيهم الفلسطينيون، يريدون السلام، وقدموا ما يثبت ويبرهن على مصداقيتهم في ذلك. الإسرائيليون لا يريدون السلام حالياً، والأميركيون يجارونهم في ذلك لأسباب سياسية غالباً، ودينية أحياناً أخرى. مسيرة ما يسمى حتى الآن "عملية السلام"، تكشف هذا الفرق بشكل جلي. بل إن الكثيرين من المعنيين بالأوضاع في المنطقة، من سياسيين ومراقبين وأكاديميين وصحفيين، بما فيهم الأميركيون والأوروبيون، لا يخفون معرفتهم بكل ذلك. هل هم مندهشون؟ غالباً يجدون تفسيره في تركيبة "عملية السلام"، وطبيعة الأطراف التي تتكون منها، وفي موازين القوة والمصلحة بين هذه الأطراف. ما هو الدليل أو الأدلة على أن العرب يريدون السلام، وأنهم جادون في ذلك؟ أولاً إن قرار التقسيم المشهور، والصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، لا يعطي اليهود إلا 53% من أرض فلسطين. حالياً، وفي تناقض صارخ مع القانون الدولي المذكور، قبل العرب بما فيهم الفلسطينيون، أن تستولي الدولة اليهودية على ما يصل الى 78% من أرض فلسطين. وهذا لا يزال غير كاف لا بالنسبة للإسرائيليين، ولا بالنسبة للإدارات الأميركية المتعاقبة، وخاصة إدارة جورج بوش الحالية. ثانياً، إن الذي بدأ عملية السلام هم العرب وليس الأميركيون أو الإسرائيليون. يشيع الأميركيون بأن "عملية السلام" بدأت بمؤتمر مدريد عام 1991. وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق. بدأت عملية السلام بمبادرة الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، بزيارة القدس المحتلة عام 1977. وقد أسبغ الأميركيون والإسرائيليون حينها على السادات ولا يزالون الكثير من المديح، لكنهم لم يقدموا له شيئاً أكثر من المديح اللفظي. فقد مات الرجل بعد أربع سنوات من مبادرته، وبعد سنتين من توقيعه اتفاقية "كامب ديفيد" للسلام مع إسرائيل، بما في ذلك التطبيع وتبادل السفارات، ولم يحصل على أي شيء مقابل ذلك. حتى سيناء لم تعدها إسرائيل إلى مصر إلا لخليفة السادات، حسني مبارك. ثالثاً بادر بعض العرب، وتحديداً الفلسطينيون والأردن وموريتانيا في أوقات مختلفة، وقبل تحقق سلام شامل، وقبل قبول إسرائيلي واضح بفكرة السلام، إلى الاعتراف بإسرائيل، والتطبيع معها. رابعاً، كل طرف عربي وقع اتفاقية سلام مع إسرائيل حتى الآن، فعل ذلك قبل تحديد حدود الدولة اليهودية التي يعترف بها وفقاً لهذه الاتفاقية. وهذا تنازل صارخ آخر يضاف إلى تنازل الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها قبل حلول السلام الشامل والكامل مع كل الأطراف الأخرى. الأكثر من ذلك، وهذا خامساً، أن كل الدول العربية التي وقعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل تكون عملياً قد أنهت حالة الحرب معها، فضلاً عن الاعتراف والتطبيع معها. بل إن مصر، أكبر دولة عربية، أقدمت قبل ثلاثين سنة، على الإعلان بشكل رسمي، وقبل التوصل إلى اتفاقية سلام، بأن حرب رمضان/أكتوبر 1973 هي آخر حروبها مع الدولة العبرية. سادساً قدم العرب جميعهم، عام 2002، مبادرة سلام شامل وكامل تقضي بالاعتراف العربي الجمعي بإسرائيل، والتطبيع معها مقابل انسحابها فقط من الأراضي التي احتلتها عام 1967. كل تلك التنازلات غير المسبوقة، والخطوات العربية الكبيرة باتجاه السلام، لم تزد الدولة اليهودية إلا تعنتاً، ورفضاً مبطناً لفكرة السلام. بل إن إسرائيل، وبعد أن أنهى العرب حالة الحرب معها، رفعت من وتيرة ممارساتها لكل أنواع العنف والحروب والاغتيالات والاستيطان وسرقة الأرض... خلال الثلاثة عقود الماضية. كل التقارير الدولية، بما في ذلك تقارير إسرائيلية من "حركة السلام الآن" ومؤسسة "بيتسليم"، تؤكد بأن وتيرة الاستيطان الإسرائيلي ازدادت أكثر من الضعف منذ اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1979، واتفاقية أوسلو عام 1993. بعد إنهاء الكثير من الدول العربية لحالة الحرب معها، شنت إسرائيل حربين كبيرتين ضد لبنان عامي 1982 و2006، فضلاً عن حروبها واجتياحاتها المستمرة للمدن الفلسطينية المحتلة، في الضفة الغربية وقطاع غزة. لا تزال الحكومة الإسرائيلية ترفض حتى الآن التفاوض مع الفلسطينيين، بما فيهم محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، حول "القضايا النهائية للسلام". هذا رغم أن محمود عباس هو مهندس أوسلو، والشخصية التي فضلتها إسرائيل وإدارة بوش مقابل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. على خلفية ذلك يأتي خطاب الرئيس الأميركي المفاجئ مساء الاثنين الماضي (توقيت الشرق الأوسط). ليس في هذا الخطاب من جديد على الإطلاق، إلا التكرار الممل لكل الشعارات والوعود الكاذبة التي لا يتورع رئيس دولة ديمقراطية عن إعادتها على الملأ بمناسبة ومن دون مناسبة. مناسبة هذا الخطاب انقلاب غزة، والانهيار شبه الكامل للسياسة الأميركية في العراق. يبدأ الرئيس خطابة بالتذكير بأنه أول رئيس أميركي يدعو إلى دولة فلسطينية. هو بالفعل قال بذلك عام 2001، لكنه كان ولا يزال غير صادق فيما قاله. فبعد ست سنوات من ذلك التاريخ، ليس هناك أي مؤشر على صدق الرئيس الأميركي أو جديته في دعم فكرة الدولة الفلسطينية. بل إنه قبل سنتين، أعطى رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه آرييل شارون وعداً مكتوبا بدعمه في الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية. لم يسأل الرئيس نفسه سؤالاً بسيطاً: من الذي خوله إعطاء مثل هذا الوعد؟ هذه أرض فلسطينية وفقاً للقانون الدولي، ووفقاً لسياسة الإدارات الأميركية التي سبقته. بعبارة أخرى، يأخذ الرئيس بوش بيده اليمنى ما وعد به الفلسطينيين بيده اليسرى. وهذا دليل واحد فقط على كذب الرئيس وعدم صدقيته في هذا الموضوع. الدليل الآخر أن الرئيس يرهن قيام الدولة الفلسطينية التي يدعو إليها بموافقة إسرائيلية مسبقة. ثم يعطي دعمه الكامل والمسبق للسياسة الإسرائيلية في ذلك، مع معرفته بأن إسرائيل لا تريد قيام دولة فلسطينية جملة وتفصيلاً. إسرائيل تراوغ في "عملية السلام"، وتختلق كل ما يبطئ هذه العملية، بما في ذلك العنف والحروب، وتستمر في مصادرة الأراضي الفلسطينية. وفي كل ذلك تحظى الدولة اليهودية بالدعم الكامل وغير المشروط من قبل إدارة الرئيس بوش نفسه. بل إن هذه الإدارة تمول الاستيطان الإسرائيلي، وبالتالي تمول سرقة الأراضي الفلسطينية بأموال دافع الضرائب الأميركي. ثم يأتي الرئيس بوش ويتبجح للمرة الألف بأنه أول رئيس أميركي يدعو إلى قيام دولة فلسطينية. كيف يمكن التوفيق بين هذه الدعوة، وبين الدعم غير المشروط للسياسات الإسرائيلية، وخاصة لعمليات الاستيطان المستمرة. إنها حقاً دعوة مزيفة وكاذبة، يستخدمها الرئيس كغطاء آخر، إلى جانب غطاء "عملية السلام"، لسرقة الأرض الفلسطينية وخلق أمر واقع وجديد في المنطقة. ليس هناك من جديد أو غريب في كذب الرئيس هنا. حيث يبدو أن الكذب أصبح سمة واضحة لسلوك إدارة بوش. كذب الإدارة وتزويرها لتبرير غزو العراق واحتلاله أصبح أمراً معروفاً حتى في واشنطن. بقيت الإشارة إلى ما نقلته صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية في تقريرها عن خطاب الرئيس الأميركي. كان لافتاً أن الصحيفة وضعت عنوان تقريرها هكذا "بوش يطالب حماس بالاعتراف بإسرائيل". ولا يقل أهمية عن ذلك أن الصحيفة نفسها تنقل عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي أن البيت الأبيض نسق معهم حول المواضيع التي سيتناولها الرئيس في خطابه. إذا صح هذا، وهو الأرجح، يكون جورج دبليو بوش يبيع الهواء على العرب علنا، وبكل صفاقة!