يستطيع الفقراء أحياناً أن يؤثروا في الاقتصاد العالمي مثل الأغنياء، وإن جاء ذلك بالسلب. وتستطيع قرية في "إيجو" أو "أوجوني" بجنوب شرقي نيجيريا أن تؤثر بدورها في حياة الأغنياء، مثلما تفعل قرية "دافوس" بوسط سويسرا، وإن بالسلب أيضاً! والملفت أن تاريخ تحرك أهالي هذه القرى في نيجيريا ضد شركات البترول و"الرأسمال العالمي" في مستنقعات وبحيرات "ولاية الأنهار" بجنوب نيجيريا هو نفس تاريخ تحرك "أغنياء دافوس" لضبط حركة رأس المال العالمي بين أيديهم منطلقين من اجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي في "دافوس" أواخر التسعينيات من القرن الماضي. الملفت أيضاً أن الرئيس السابق "أوباسانجو" المفضل حتى الآن لدى أغنياء "دافوس"، كان يستمتع فعلاً بموائد وكرنفالات تلك القرية السويسرية، واعداً مليارديرات "شيفرون" الأميركية، و"شل" الهولندية-البريطانية، و"أجيب" الإيطالية و"توتال" الفرنسية، بتأمين مصادر ثروتهم من البترول في نيجيريا إزاء اضطرابات لصوص البترول والمعتدين على أنابيبه من رعاع ولايات "دلتا النيجر"، بينما كانت الملايين من أبناء هذه الولايات يغوصون في بحيرات ومستنقعات المنطقة يستخرجون السمك ميتاً، أو يبكون على الشجر والمزروعات التالفة بسبب الغاز والبترول المتسرب، الذي استغاثت من آثاره كل جماعات البيئة وحقوق الإنسان، وخرج الأهالي بالآلاف ضد الولاة ومندوبي الشركات العاملة في المنطقة ليواجهوا القوات المسلحة التي أرسلها "أوباسانجو" في إحدى أكبر حملات التأديب في يناير 1999 أثناء اجتماعات "دافوس" في سويسرا! كانت جماهير مزارعي وصيادي "ولاية الأنهار"، تحمل في ذهنها حماقة ديكتاتور سابق لم يتوانَ عن إعدام المثقف والشاعر "كون سارو ويوا" وزملائه عام 1995 حين قاد تمرد أبناء "أوجوني" ضد أعمال شركات البترول التي تتجاهل صحة وبيئة وفقر أهالي أغنى البلاد الأفريقية. والآن تصاعد تمرد أبناء الدلتا إلى حد تعطيل الحياة السياسية والاقتصادية تماماً في البلاد، علما بأن هؤلاء طالما تجاهلتهم الفئة الحاكمة منذ ذلك الحين، منذ كان رفض الحكم أو شكل الاحتجاج يتخذ أبسط أشكاله بإحداث الثقوب في أنابيب البترول للاستيلاء على السائل وبيعه في أقرب الأسواق، أو بتنظيم عصابات صغيرة، بعضها يواصل "سرقة" ثروتهم الوطنية وبعضهم يقوم بحماية الأنابيب لصالح الشركات، التي تنظم رشوة عصابات الأمن أو اجتجاجاً مباشراً على حكام المنطقة وشركائهم، ممن استغلوا هذه الفوضى للضغط على الحكم المركزي والأهالي معاً. وقد تصاعد تهديد حالة الفقر لحالة الثراء إلى حد تعطيل إنتاج ما يقرب من نصف مليون برميل يومياً (من بين 2.3 مليون برميل يومياً)، وتعطيل ضخ هذه الثروة الهائلة التي يصب ما بقي منها في دهاليز واحدة من أفسد النظم في العالم، بما لا يعرف معه مصير حوالي 45 مليون دولار، هي نصيب حكومة وولاة نيجيريا عام 2005 فقط، في وقت تتعطل فيه تماماً خدمات الكهرباء والمياه أو الاتصالات والتعليم بشكل يقل مثيله في أنحاء القارة السمراء. منظر أبناء قرى ومدن "دلتا النيجر"، وهم يحملون "جرادل" المياه من مصادرها البعيدة المحدودة إلى أسرهم، أو يحمل بعضهم أواني مملوءة بالبترول من ثقب أنبوب هنا أو هناك يقتات من عائدها المحدود إزاء تعطل الصيد وجفاف الزرع، ومنظر جنود القوات المسلحة النيجيرية وشركات الأمن التي باتت تجد سوقاً هائلة مع حوادث خطف الجنود والمهندسين والعاملين في شركات البترول بما لا يعرف مدى مصداقيته، يجعلنا نتصور نيجيريا "عراقاً" صامتة حتى الآن، أو أنها "دارفور" أخرى مهيأة للانفجار، نتصور شعار "البترول الدموي" مماثلاً لشعار "الماس الدموي" الذي أسالته سرقاته وعصاباته الدولية والمحلية من دماء الآلاف من سيراليون إلى الكونغو إلى أنجولا طوال عقد التسعينيات. وها هو البترول يسيل كثيفاً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والمستفيدون والخاسرون هم أنفسهم. لكن الأطراف على الجبهتين لا تستطيع الصبر! فالطبقة الحاكمة في نيجيريا، سارعت بترتيب توريث السلطة لجماعة "أوباسانجو" بانتخابات سيئة السمعة جرت أواخر أبريل الماضي، نقل فيها أوباسانجو الرئاسة- لدواعٍ ديمقراطية شكلية عن سمعته في الأوساط الغربية- إلى من ارتاح له من حكام ولايات الشمال وهو "موسى يارادوا". وحين اشتدت اعتراضات بعض أطراف الطبقة من عسكريين ورجال أعمال طرح الرئيس الجديد والمنتخب في انتخابات حرة، إمكانية إبرام شراكة مع بعض القوى المنافسة في حكومة وحدة وطنية حتى تهدأ النفوس من حوله، وما زالت ترتيبات الطبقة الحاكمة غير قادرة على تشكيل "حكومة الترضية" هذه طوال أكثر من شهرين حتى الآن. وفي نفس الوقت يمضي الرئيس السابق في ترتيب آخر لإقامة إحدى كبرى شركات الغاز في مشروع يمده إلى دول غرب أفريقيا بمعرفة شركات ينسق هو بينها. والمشكلة الرئيسية أمام الحكم في نيجيريا، مازالت في تصاعد الشرر من منطقة البترول المشتعل في "دلتا النيجر" إذ تتصاعد الأعمال الاحتجاجية الصغيرة وتتضخم إلى حد التبلور في تنظيمات يحمل بعضها السلاح مباشرة، تنظيمات باسم "حركة تحرير دلتا النيجر MEND وحركة "قوات متطوعي الدلتا" PVF وحركة وحدة الدلتا CHICOCO بل وتجديد حركات انفصال "بيافرا" السابقة، وهي في نفس المنطقة من شرقي نيجيريا، وهذه الحركات الشعبية التي تهدد بتوسيع قاعدة العنف على مستوى منطقة تضم حوالي عشرين مليوناً من السكان، تتركز فيها عمليات التنقيب عن البترول تحمل مطالب متصاعدة بدورها: من انسحاب قوات الجيش في المنطقة إلى وقف أعمال التنقيب في المناطق الآهلة بالسكان أو المناطق الغنية بالأسماك مصدر الغذاء والرزق، إلى ترتيبات حماية البيئة من الغاز المتسرب في المنطقة إلى المشاركة في الثروة بتحويل نصيب مناسب منها إلى مشروعات توفير المياه النقية والكهرباء والاتصالات والتعليم التي تحرم منها أغنى مناطق نيجيريا، هذا فضلاً عن طلب إعادة الانتخابات في المنطقة ومحاكمة المحافظين الفاسدين، ويأتي على رأس قيادة مثل هذه الحركات وريث جديد للشهيد "ساروويوا"، وهو الشاب "دوكويو أسارى" خريج الجامعة المسيحي الذي اعتنق الإسلام باسم "المجاهد الحاج أسارى" ممثلاً رموز المتمردين الإسلاميين في "كانو" بشمال نيجيريا في العقد السابق، مما جعل جهاز الإعلام القوي لشركات البترول يتهمه ويقدم "الدلائل" عن صلته "بابن لادن".. ووصول "القاعدة" إلى "دلتا النيجر"! وقد اعتقل منذ عدة شهور، ليفرج عنه الرئيس الجديد، موسى يارداوا "بأمل تهدئة النفوس الملتهبة في منطقة الدلتا. والآن أصبحت الأسئلة القادمة من نيجيريا خطيرة بحق، لأن انخفاض إنتاج البترول في نيجيريا، أصبح ذا صلة وثيقة بأسعار البترول العالمية بل وبالتنافس الصيني- الأميركي نفسه هناك، ونحن لا نعرف كيف ولمصلحة من بالضبط ، تُدار معركة البترول في الشرق الأوسط أو أفريقيا، لكنا نرى أن الذين يرتاحون لاستمرار اضطراب الموقف في العراق بشكل أو بآخر أو يحاولون السيطرة بأنفسهم على الموقف في السودان، يمكن أن يريحهم تصاعد النيران في دلتا النيجر أيضاً، ويرتاحون لمعالجة موضوع نيجيريا في إطار موضوع دارفور والعراق وغيرهما، لتصير الساحة موضع معالجة موحدة، تخدم فيها فئات معينة مصالح محددة، لكن تظل الأسئلة قائمة على مدى تقدير الاستراتيجيتين في الدوائر العالمية - بل والمحلية -لاحتمالات تصاعد أقوى النيران من مستصغر الشرر؟ وهي هنا أسئلة تتعلق باحتمالات. تفجرَ الموقف في أكبر وأغنى دولة أفريقية، ولا تستطيع فيها الرأسمالية الأفريقية الريعية أن توقف تيار الانقسام على أساس قبلي وطائفي وديني، وقد تستغل فيها أيضاً المسألة الإسلامية والإرهاب حيث زعيم "دلتا النيجر" يصور كذلك، بل والرئيس الجديد مسلم. فتصبح أمام مسرحية أفريقية جديدة على النسق العربي الإسلامي.