اعتصم مئات البحرينيين يوم الخميس الماضي أمام السفارة الإيرانية في المنامة، احتجاجاً على مقال لحسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة "كيهان" الإيرانية المحافظة، والذي اعتبر البحرين محافظة إيرانية، مضيفاً قوله إن البحرينيين يطالبون بعودة الجزيرة إلى "وطنها الأم"! وليس في نيتي أن أسعى إلى تحليل طبيعة الرسالة التي حاول شريعتمداري إرسالها عبر صحيفته المعروفة بقربها، وقربه هو شخصياً، من الأوساط الرسمية الإيرانية وعلى رأسها مرشد الثورة علي خامنئي، فذلك عمل ينطوي على تعقيدات لا أول لها ولا آخر، خاصة بعد أن حرص وزير الخارجية الإيراني في زيارته للبحرين، بعد يومين من نشر المقالة، على نفي أن تكون لذلك أية دلالة رسمية بالنسبة للسياسة الإيرانية تجاه البحرين. لكن يلاحظ أن لهذه الواقعة سابقة مماثلة في مطلع الثورة الإيرانية، عندما طالب آية الله روحاني باستعادة البحرين، حتى إذا أثار مطلبه رد فعل بحرينيا وعربيا عنيفا، عاد المسؤولون الإيرانيون لنفي وجود أي أطماع لهم في البحرين! غير أن اهتمامي بهذا الحدث ينبع من منظور مختلف، وهو أنه حدث كاشف بالنسبة لمعضلة العلاقات العربية –الإيرانية، وأقصد تحديداً كونها علاقات ذات أبعاد متشابكة، بعضها يمكن البناء عليه لتطوير روابط تفيد طرفيها في حركتهما داخل البيئتين الإقليمية والعالمية، بينما بعضهم الآخر يوفر أساساً لتنافر إيراني –عربي قد يصل إلى حد الصدام. فإيران، من ناحية هي دولة مسلمة وجارة للعرب الذين شهدوا أعظم مراحل تطورهم التاريخي في إطار الحضارة الإسلامية الجامعة، والنظام القائم فيها حالياً يتبع سياسات خارجية يمكن أن تكون مفيدة –أو على الأقل قابلة للمحاكاة –للجانب العربي، فموقفه تجاه إسرائيل- بغض النظر عن بعض المبالغات هنا وهناك- يشبه إلى حد بعيد موقف العرب منها في مرحلة مدهم القومي، وهو بالإضافة إلى هذا يعزز قوى المقاومة ضدها كما يتضح من تجربة "حزب الله" في لبنان، كما أن موقف النظام الإيراني تجاه القوى الكبرى يثير إعجاب قطاعات واسعة من العرب. غير أن إيران من ناحية أخرى بدت في عنفوان ثورتها حريصة على تصدير هذه الثورة على نحو أصاب بضرر بالغ علاقاتها بمعظم الدول العربية، والواقع أن الحرب العراقية –الإيرانية (1980-1988) -على العكس مما يشاع الآن -كانت بأحد المعايير حرباً عربية –إيرانية ، إذ لم يشذ عن تأييد العراق في تلك الحرب سوى سوريا، كما أثار سعي إيران لامتلاك قدرة نووية مخاوف بعض العرب خاصة في الخليج، من ناحية أخرى تثير السياسة الإيرانية في العراق استياء قطاعات واسعة من العراقيين والعرب مما يبدو أنه محاولة إيرانية محكمة لإدخال العراق ضمن دائرة النفوذ الإيراني، وقبل ذلك كله يمثل الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث عقبة كأداء في وجه تطوير أية علاقات عربية-إيرانية بصفة عامة. إزاء هذا "التعاكس" الواضح في دلالات السياسة الخارجية الإيرانية بالنسبة للمصالح العربية، حدث استقطاب واضح في أوساط النخب العربية بشأن الموقف من إيران، فثمة فريق يرى من جانب أن إيران هي أولاً وأخيراً جار للعرب، فضلاً عن أنها شريك لغالبيتهم في الديانة الإسلامية، ومن ثم فهي جزء لا يتجزأ من الحضارة العربية–الإسلامية. وفي المرحلة التاريخية المعاصرة صحيح أن شاه إيران تحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل ضد العرب، لكن الثورة الإيرانية جاءت لتصحح ذلك في عام 1979، وموقفها من إسرائيل والولايات المتحدة معروف الآن، فهي تؤيد الشعب الفلسطيني ومقاومته بلا تحفظ، وتقدم نموذجاً لسياسة استقلالية ناجحة إزاء الولايات المتحدة، وهي بذلك تمثل حليفاً موضوعياً للعرب في صراعهم مع إسرائيل ومواجهتهم لتحديات السياسة الأميركية. ويلاحظ أنصار هذا الفريق أن العرب هم الذين ناصبوا الثورة الإيرانية العداء، فمواقفهم السلبية تجاهها ليست موضع شك، وفي مقدمتها استضافة السادات لشاه إيران بعد نجاح الثورة، ومبادرة صدام حسين بالهجوم عسكرياً على إيران في سبتمبر 1980... ويطالب أنصار هذا الفريق بما يشبه الحلف بين العرب وإيران لمواجهة التحديات المشتركة، ناهيك عن ضرورة ألا يسمح العرب لأنفسهم مرة أخرى بأن يكونوا مخلباً للقط الأميركي في النيل من إيران وثورتها، على أساس أن الحرب العراقية شكلاً والعربية مضموناً على إيران، تمثل السابقة الأولى في هذا الصدد. في المقابل يرى الفريق الآخر أن تاريخ العلاقات العربية- الإيرانية لا يقدم أي دلالة تنبئ بخير، وأن الثورة الإيرانية، وإن تبنت شعارات حادة ضد إسرائيل، إلا أنها لم ولن تفعل شيئاً لمصلحة العرب، وحتى إذا كانت تسلح هذا الفصيل المقاوم أو ذاك، فهي تفعل ذلك من منظور مصلحتها الوطنية من ناحية ومع الفصائل التي تدين لها بالولاء من ناحية أخرى، وإن محاولاتها لتصدير نموذجها "الثوري" إلى العرب عامة والخليج خاصة، ليست موضع شك، وإن الحرب العراقية-الإيرانية لم تكن سوى نتيجة طبيعية لهذه المحاولات، وإن السياسة الإيرانية الراهنة إزاء العراق خير شاهد على رغبة إيران في اختراق النظام العربي والسيطرة عليه، وإن مشروعها النووي لن يكون بأي حال موجها إلى إسرائيل، وإنما لخدمة الرغبة الإيرانية في الهيمنة على المنطقة، ناهيك عما ستكون له من أضرار بيئية... ولذلك يجب أن يكون التناقض العربي- الإيراني رئيسياً بما يعكس الاستمرار التاريخي لظاهرة العداء الفارسي –العربي. ولا يخفى ما بين الفريقين من تنافر حاد في التوجهات إزاء إيران، فهل بمقدورنا أن نصل إلى كلمة سواء بشأن العلاقات العربية –الإيرانية تعين العرب على مواجهة ما هم فيه من وضع سياسي واستراتيجي بالغ الخطورة؟ لاشك، أولاً، إننا نستطيع تجاوز المراحل التاريخية السابقة بما تحمله من دلالات سلبية وإيجابية، لنركز على المرحلة المعاصرة، وفى هذا الصدد ينبغي الاعتراف بأن الثورة الإيرانية، كباقي الثورات، حاولت تصدير نموذجها للخارج، وكان مجالها المباشر هو منطقة الخليج، وكان من حق النظم العربية أن تدافع عن نفسها، وإن اختار النظام العراقي السابق طريقة مرفوضة للرد على الاستفزازات الإيرانية. من ناحية أخرى لابد من الاتفاق على أن السياسة الإيرانية تمثل رصيداً ايجابيا للعرب في صراعهم مع إسرائيل، سواء بمواقفها السياسية من الكيان الصهيوني حتى وإن لم يتفق بعض النظم العربية معها، أو تسليحها لفصائل مقاومة عربية، أو بسعيها لبناء قوة إقليمية ذات ذراع نووية قد تصحح الخلل الراهن في ميزان القوى في الشرق الأوسط، وينطبق الأمر نفسه على علاقات العرب بالولايات المتحدة، إذ أن من مصلحتهم أن يكون لهم جار قوي يتبع سياسة استقلالية ناجحة تجاه الدولة الأعظم، ومن هنا فثمة تقاطع أكيد في المصالح العربية-الإيرانية يمكن أن يكون أساساً لبناء علاقات عربية-إيرانية صحية شريطة أن تتخلى إيران عن مواقفها المتعارضة مع عملية البناء هذه، وفى المقدمة منها احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، إذ عليها أن تقبل- كما قبلت دولة الإمارات- الاختصاص الإلزامي لمحكمة العدل الدولية في الفصل في النزاع. لكن العرب لن يكون بمقدورهم التوصل إلى صيغة مثلى لعلاقاتهم مع إيران، إذا استمر انقسامهم وضعفهم، وفى القضاء على هذين العرضين تكمن إمكانية نجاحهم في التوصل إلى معادلة صحيحة لهذه العلاقات، ومن هنا ضرورة قيام حوار عربي –عربي، يهدف أولاً إلى بناء رؤية مشتركة إزاء إيران، ويسعى ثانياً إلى بلورة مشروع عربي لبناء قوة إقليمية. من حق إيران أن يكون لها مشروعها الإقليمي، غير أن نجاحها في ظل استمرار الضعف العربي الراهن، سيكون بالتأكيد على حساب المصالح العربية. لذلك فتوحيد الرؤى العربية والنجاح في بناء مشروع نهضوي عربي جديد، هما المفتاحان الأساسيان لمواجهة معضلة العلاقات مع الجار الإيراني، وفى هذه الحالة فقط سيكون بمقدورنا أن نصل بالمصالح المشتركة بين الطرفين إلى حدها الأقصى، وأن نقلل إلى الحد الأدنى تلك المصالح المتصادمة التي تعزز التوتر الراهن في العلاقات العربية –الإيرانية.