محمد ولد المنى معبر رفح: بوابة القطاع وتقاطع الرهانات! --------- آهات العالقين هناك ومعاناتهم، ربما طرقت آذان الجميع ولامست ضمائر القلة، لكنها تجاوزت الحد الذي يمكن لدول العالم ومنظماته أن تستمر في تجاهله! فما تنقله وسائل الإعلام من صور وإفادات حول الأحوال الإنسانية لأكثر من ستة آلاف مواطن فلسطيني ينتظرون السماح لهم، منذ عدة أسابيع، بالعودة إلى قطاع غزة عبر بوابة معبر رفح الحدودي، يمثل جانباً مأساوياً آخر في حياة الشعب الفلسطيني، والذي تحولت أراضيه إلى سجون كبيرة أو مقاطع مغلقة تحيطها الأسوار في "الهواء الطلق"! فالمأساة التي ينشغل عنها المتناكفون في الضفة والقطاع، بالمراسيم والمماحكات الإعلامية، لم يكن لصندوق النقد الدولي أن يواصل صمته إزاءها إلى ما لا نهاية، إذ حذر الجمعة الماضي من أن الحياة الاقتصادية في القطاع باتت على وشك الانهيار الكامل بسبب إغلاق المعابر. كما دعا الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون"، إلى بذل كل ما هو ممكن لفتح المعابر، تفادياً لكارثة إنسانية وشيكة، وطالب على وجه الخصوص بفتح معبر رفح لتمكين العالقين على جانبه المصري من العودة إلى بيوتهم في القطاع. بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في صيف عام 2005، أو ما أطلق عليه "الفصل من جانب واحد"، سرعان ما اتضح أن إسرائيل تنوي الاحتفاظ بسيطرتها على جميع المنافذ التي تربط القطاع بالعالم الخارجي، أي الشواطئ والموانئ (المنافذ البحرية)، الأجواء والمطارات (المنافذ الجوية)، والمعابر الحدودية (المنافذ البرية). هذا ويرتبط القطاع مع محيطه الخارجي بخمسة معابر برية، منها أربعة تقع على خط التماس بين القطاع وأراضي عام 1948 وتخضع لسيطرة إسرائيلية كاملة، منها: معبر "ناحال عوز"، ومعبر المنطار (كارني)، ومعبر صوفيا. أما المعبر البري الخامس فهو معبر رفح الواصل بين قطاع غزة ومصر، وهو أهمها جميعاً، لكنه كان ولازال خاضعاً للسيطرة الإسرائيلية رغم تطبيق "الفصل الأحادي" منذ عامين! أخذ معبر رفح اسمه من منطقة رفح الحدودية بين مصر وفلسطين، والتي جسدت أوضح صورة للتداخل السكاني بين البلدين، لكن مأساة أهالي رفح بدأت عندما احتلت إسرائيل كلاً من قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية عام 1967، حيث لم تكن تفصل رفح المصرية ورفح الفلسطينية أية حدود، لذا كانت هناك علاقات اجتماعية تربطهما منذ قرون. أما بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 وتنفيذ شقها الخاص برسم الحدود الفلسطينية المصرية، فقد تم فصل رفح المصرية عن رفح الفلسطينية، وفرضت إسرائيل نقطة عبور للتحكم في حركة الدخول والخروج من وإلى القطاع بعد أن أعلنته منطقة عسكرية مغلقة. ولم تأت اتفاقات أوسلو عام 1993، بتغيير يذكر في السيطرة الإسرائيلية على المعابر، لكن أربع سنوات من الانتفاضة الثانية، أجبرت رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه أرييل شارون على الرحيل من القطاع، إلا أنه أبقى على قواته في منطقة رفح عند محور صلاح الدين، ثم سرعان ما دبت الحركة في مسار التفاوض المجمد منذ عدة أعوام، ليتوصل الفلسطينيون والإسرائيليون، برعاية أميركية، إلى "اتفاقية معبر رفح" الشهيرة بتاريخ 14/11/2005، والتي سُحبت بموجبها القوات الإسرائيلية من محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، مقابل السماح بوجود قوة مصرية مؤلفة من 700 شرطي مسلح على الجانب الآخر من الحدود. ومع ذلك فقد احتفظت إسرائيل لنفسها بقدرة التحكم في المعبر وتعطيله وشل حركته متى شاءت، وذلك بموجب الاتفاقية التي انتدبت مراقبين أوروبيين يتمتعون بصلاحية منع الحركة في المعبر، كما مكنت إسرائيل، بواسطة نظام تقني متقدم، من مراقبة الحركة داخل المعبر وتفاصيل القادمين والمغادرين من خلاله. وبموجب الاتفاقية أيضاً يُحظر على السلطة الفلسطينية أن تدخل إلى القطاع غير حاملي الهوية الفلسطينية، وحتى حركة هؤلاء تخضع أيضاً لقيود إسرائيلية. وتمنع الاتفاقية فتح المعبر في غياب المراقبين الأوروبيين، والذين كثيراً ما عرقلت إسرائيل وصولهم إلى رفح بذرائع مختلفة، وهم من جانبهم يعتبرون أنهم غير مخولين فتح المعبر إلا إذا قام الإسرائيليون بتشغيل غرف المراقبة! وقد عمدت إسرائيل مراراً إلى تعطيل عمل المعبر، فأوقفت نشاطه خلال الربع الأول من عام 2006، ثم أغلقته في يونيو من ذلك العام إثر عملية للمقاومة الفلسطينية قتلت خلالها جنديين إسرائيليين وأسرت ثالثاً، وهو مغلق الآن منذ أربعة أسابيع... يحدث ذلك رغم حيوية المعبر وكونه متنفساً وحيداً للقطاع وسكانه الذين يسافرون من خلاله للعلاج أو للدراسة أو للعمل في الخارج. وتوضح مؤشرات الحركة، ذهاباً وإياباً، في المعبر، أنه في الفترة بين استئناف نشاطه بتاريخ 25/11/2005 وبين إغلاقه يوم 25/6/2006، مر منه 280 ألف شخص، أي ما معدله 1318 شخصاً في اليوم. ومنذ أسر الجندي الإسرائيلي وحتى 12/12/2006 كان المعبر مفتوحاً فقط لمدة 24 يوماً، من أصل 168 يوماً، وقد مر منه في المتوسط خلال تلك الفترة 310 أشخاص يومياً. وبسبب ما تمنحه اتفاقية معبر رفح لإسرائيل من سيطرة عليه، فقد ووجهت في حينها بانتقادات حادة، حيث رأى فيها بعضهم "انتقاصاً من السيادة الفلسطينية"، و"تسليماً بالاحتلال" و"انسجاماً غير مبرر مع الترتيبات الأمنية الإسرائيلية"... وهو جدل يتجدد الآن بصورة أخرى، على خلفية سعي الحكومة الإسرائيلية لإلغاء معبر رفح والاستعاضة عنه بمعبر "كرم أبو سالم" الذي يقع في متناولها مباشرة عند خط التماس بين مصر وقطاع غزة وأراضي عام 1948. وفيما أثارت موافقة السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس على استخدام المعبر الجديد بدلاً من معبر رفح، عاصفة انتقادات من جانب "حماس"، فإن هذه الأخيرة، بانفرادها بالحكم وبالحصار أيضاً في القطاع، تجد نفسها أمام استحقاق طالما ظهرت بمظهر من يتحاشاه، ألا وهو إدارة الشأن اليومي للسكان، وضمنه تنقلاتهم ذهاباً وإياباُ عبر المعابر، بالتعاطي في تداخلات مباشرةً مع الإسرائيليين! فهل تنتهي الحسابات والمراهنات السياسية، عند أبعد من العالقين في رفح؟!