بالنسبة لي فإن الكتاب الجيد، ليس هو ذاك الذي يلتهمه القارئ دفعة واحدة سريعة، وإنما ذاك الذي يبطئ فيه ليمضغ جيداً ويتذوق نكهته كاملة، على نحو ما نفعل مع الطعام الذي أُحسِنَ طهيه. وذلك هو كتاب رالف نادر الذي حمل عنوان "التقاليد السبعة عشر". ورغم أن صفحاته لا تزيد على المئة والخمسين، إلا أنه كتاب محرض وشاحذ للتأمل والفكر، مثلما هو كتاب "باراك أوباما" الذي حمل عنوان "أحلام أبي". ووجه الشبه بين كتابي أوباما ورالف نادر، إن كتاب الأخير يلقي الضوء أيضاً على الحياة الشخصية لمؤلفه وقيمه الخاصة، إلى جانب تحريضه للقارئ على ممارسة تأمل الذات وتقييمها. ففي كل باب من أبواب الكتاب، هناك قصة عن سنوات حياته المبكرة، غير أنه مع ذلك ليس من السيرة الذاتية في شيء. بل على نقيض ذلك تماماً، يعد الكتاب دراسة جادة حول أهمية القيم الاجتماعية، وعن الدور الحاسم الذي تلعبه العائلة في تشكيل تلك القيم وتكونها. ولذلك فليس مستغرباً أن يخلص الكتاب إلى حث الآباء والأمهات المعاصرين على توثيق صلتهم بالبنات والأبناء من ناحية، وبتلك التقاليد العائلية التي تكاد تندثر الآن، من ناحية أخرى. وهذا هو ما نتوقعه من شخصية ناشطة ونابضة بالحيوية والعطاء، مثل رالف نادر. فقد أفنى هذا الرجل عمره كله في تحدي مجتمعه بفكره الناقد وعمله المفارق والمغاير. وإذا ما نظرنا إلى سيرته الشخصية من أكثر من زاوية ووجه، فسوف نجد أنه يعد شخصية تتمتع بقوة ثورية تحويلية هائلة في مجتمعه الأميركي. وعبر ما يزيد على أربعة عقود، عكف هذا الرجل على الكشف عن مخبوء المشاكل ومستعصي الصعاب، وقام وحده بتنظيم ملايين المواطنين وحشد طاقاتهم وجهودهم في ما يربو على 100 جمعية ومنظمة من منظمات النفع العام. وقد تمخضت كل تلك الجهود عن ممارسة الضغوط ورفع الحس المطلبي الشعبي الرامي لسن التشريعات وإنشاء الأطر التنظيمية اللازمة وبناء المعايير الفيدرالية، والتي أسهمت جميعاً في تحسين المستوى المعيشي لجيلين متعاقبين من الأجيال الأميركية المعاصرة. فإليه يعود الفضل في قيادة الحركات والمنظمات التي أسفرت جهودها وضغوطها عن إنشاء "إدارة الصحة والسلامة المحلية"، وتلك التي تمخضت عن جهودها "وكالة حماية البيئة"، وكذلك "لجنة سلامة المنتجات الاستهلاكية"، فضلاً عن الجهود القيادية الكبيرة التي بذلها حتى تم تشريع قانون "سلامة مياه الشرب". وبفضل الجهود التي بذلها رالف نادر، فها نحن ننعم اليوم بقيادة السيارات الأكثر أماناً، وبتناول الطعام الأكثر صحية، فضلاً عن استنشاقنا للهواء النقي وشربنا للمياه الصالحة، وعملنا في بيئة أكثر أمناً وعافية. لكن مما يؤسف له أن القليل جداً مما أنجزه رالف نادر طوال مسيرة حياته العامرة بالتضحية والبذل، ظل مجهولاً في عصرنا هذا، عصر تاريخ الذكريات العابرة المنسية، باستثناء ما ينسب إليه من بطولات "دونكيشوتية" خاضها مراراً في حلبة الترشح الرئاسي الانتخابي. وفي حين يأخذ عليه بعض النقاد ويحملونه المسؤولية عن خسارة آل جور لانتخابات عام 2000، لصالح منافسه الجمهوري جورج بوش، بسبب تشتيته لأصوات الناخبين بين المتسابقين الرئيسيين، فإن نادر يصد هذه التهمة عن نفسه بعنف، ويمضي في سبيل ذلك إلى تفصيل أنماط الاقتراع السائدة، إثباتاً لرؤيته ووجهة نظره. والآن وقد بلغ نادر عقده السبعين، مع أنه لا يزال يواصل كفاحه وجهوده في تنظيم المواطنين وحشد طاقاتهم وإرادتهم لمكافحة جشع الشركات الخاصة وعدم مسؤوليتها، فهاهو يقف برهة ليتأمل منابعه وجذوره، وليستعيد مجمل الدروس التي تعلمها من والديه المهاجرين اللبنانيين. وقد جاء هذا الكتاب، ثمرة لتلك التأملات والوقفات.