د. أكمل عبد الحكيم هل يجب على المجتمع توفير الرعاية الصحية لمن تصيبهم الأمراض بسبب أسلوب الحياة السائد ونوعيته؟ وهل يجب على المجتمع توفير العلاج لمدمن الكحوليات، والذي أدى إدمانه لتلف كبده؟ وهل يجب على المجتمع توفير العلاج لمدخني السجائر والشيشة، والذين أدى تدخينهم لإصابتهم بأمراض الرئة وبطائفة أخرى من الأمراض والعلل؟ وما مدى مسؤولية المجتمع أمام من اختار تعاطي وإدمان المخدرات؟ وهل يجب فرض ضرائب ثقيلة على المنتجات القانونية المعروف عنها تسببها في الإصابة بأمراض خطيرة، كالسجائر مثلاً، والتي يتحمل جميع أفراد المجتمع فاتورة علاج ورعاية من يسقطون ضحايا لها؟ هذه الأسئلة عادت لتطفو على السطح مرة أخرى هذا الأسبوع، بعد نشر نتائج دراسة أجراها علماء قسم الصحة العامة في جامعة "أوكسفورد" ببريطانيا. هذه الدراسة نشرت في إحدى الدوريات العلمية المرموقة المتخصصة في علم الإحصاء الطبي وصحة المجتمع (Journal of Epidemiology and Community Health)، وقد خلصت إلى أن فرض ضريبة على الأطعمة غير الصحية، من شأنه أن ينقذ حياة أكثر من ثلاثة آلاف شخص سنوياً في بريطانيا وحدها، يلقون حتفهم من جراء الذبحة الصدرية والسكتة الدماغية اللتين تتسبب فيهما هذه الأطعمة. في البداية استخدم العلماء التوقعات الاقتصادية، لإظهار مدى الانخفاض الذي سيحدث في مقدار استهلاك الأطعمة غير الصحية، بعد ارتفاع أسعارها نتيجة إضافة الضريبة، ومدى الزيادة التي ستحدث في استهلاك الأطعمة الصحية كبديل عن تلك التي ارتفعت أسعارها. ومن خلال تلك التوقعات، أمكن للعلماء استنتاج الآثار الصحية التي سيجنيها أفراد المجتمع من جراء تناول كميات أقل من الأطعمة غير الصحية، وكميات أكبر من الأطعمة الصحية، وتأثير ذلك على احتمالات الإصابة بأمراض شرايين القلب والمخ. ومن خلال نماذج مختلفة، قام علماء "أوكسفورد" في النموذج الأول بإضافة الضريبة على منتجات الألبان التي تحتوي على نسب مرتفعة من الدهون المشبعة، مثل الأجبان والزبد، بالإضافة إلى الأطعمة المخبوزة، وبعض أنواع الحلويات (Puddings). لكن سرعان ما أظهر التحليل الإحصائي أن المستهلكين، مع ارتفاع أسعار هذه الأغذية بالتحديد، سيتحولون لاستهلاك أغذية أخرى غير صحية تحتوي على كميات مرتفعة من الملح، وهو ما من شأنه في الحقيقة أن يزيد من احتمالات الإصابة بأمراض شرايين القلب والمخ، لا أن يخفضها. ولذا تحول تفكيرهم للاعتماد على نظام نقاط معروف (SSCg3d) ، يستخدم لتحديد مدى "صحية" أي نوع من الغذاء. هذا النظام يعتمد في تقييم صحية الغذاء، على كميات ثمان من المغذيات المفيدة في 100 جرام من الغذاء المعني. أي أنه كلما زادت النسبة الإجمالية لهذه المغذيات الثمان، كلما حقق الغذاء نقاطاً أعلى في التقييم الغذائي النهائي. وباستخدام هذا الأسلوب في التحليل، قام العلماء بإضافة الضريبة على جميع الأغذية منخفضة النقاط، وعلى الأغذية متوسطة النقاط التي يمكن للأفراد الاعتماد عليها في حالة ارتفاع أسعار الأغذية غير الصحية. وسرعان ما ظهرت النتيجة النهائية، في شكل انخفاض بمقدار 1.7% في معدلات الإصابة بأمراض شرايين القلب والمخ القاتلة. هذه الفكرة، والتي تعرف أحيانا بضريبة الدهون (Fat Tax)، كان قد تم طرحها في عام 2004، لكنها رفضت من "توني بلير"، رئيس الوزراء البريطاني في حينها، على أساس أنها تدخل سافر من الدولة في شؤون الأفراد، ضمن ما يعرف بـ"الدولة جليسة الأطفال" أو "المربية" أو "الناني" (Nanny state)، والتي تتدخل في سلوك أفرادها مثل تدخل المربية في سلوك الأطفال. هذا بالإضافة إلى أن المتخصصين في الشؤون الاجتماعية قد عارضوا هذه الفكرة، على أساس أن تلك الضريبة سوف ترفع من الفاتورة الشهرية للغذاء بمقدار 4.5%، وهو ما من شأنه أن يضر بالعائلات الفقيرة. وأمام هذه الانتقادات، يقترح المؤيدون لضريبة الدهون، والتي تعرف أحياناً بـ"ضريبة الأطعمة الرديئة" أو "الأطعمة الخردة" (Junk Food Tax)، أن تستخدم عوائد هذه الضريبة في دعم سعر الأغذية الصحية. ففي الولايات المتحدة مثلاً، تشير الإحصائيات إلى أن إضافة "سنت" واحد كضريبة دهون على المشروبات الغازية، من شأنه أن يولد دخلاً يزيد عن 1.5 مليار دولار سنوياً، وهو المبلغ الذي يمكن أن يستخدم لتوفير الدعم للخضروات والفواكه على سبيل المثال. هذه الفلسفة يمكن أن تطبق على بقية الأغذية التي تحتوي على سعرات حرارية مرتفعة، من دون أن توفر قيمة غذائية تذكر، مثل رقائق البطاطس المملحة، والحلويات، والمعجنات المصنعة من دقيق أبيض. وبخلاف دعم الأغذية الصحية، يمكن استخدام العوائد الضريبية لتمويل برامج النشاطات البدنية المجتمعية، ومكافحة السمنة، وزيادة مستوى الثقافة الغذائية بين أفراد المجتمع. أما بخصوص الانتقاد المتعلق بتدخل الدولة في سلوك الأفراد، فيجب أن نتذكر أن الدولة في النهاية هي التي تتحمل فاتورة المضاعفات التي تنتج عن السلوك غير الصحي لأفرادها. هذا بالإضافة إلى أن فرض ضريبة على الأغذية غير الصحية، واستخدام عوائدها لدعم الأغذية الصحية، لن يحكم اختيار الأفراد، بل سيجعل الاختيار الخاطئ فقط أكثر تكلفة. وفي النهاية سيوفر المجتمع برمته أموالاً للإنفاق على علاج الأمراض الناتجة عن تناول الأطعمة غير الصحية، بالإضافة إلى وقاية الكثيرين من الوفاة المبكرة بسبب أمراض شرايين القلب والمخ.