تكمن أزمة السياسات الغربية وتخبطها حول العراق، في عدم الاعتراف بالتضارب الذي يتنازعها. فواشنطن ولندن تريدان انسحاباً سلمياً لقواتهما المقاتلة في العراق، كما أنهما ترغبان معاً في تأمين امتيازات بعيدة المدى كثمرة لتدخلهما هناك، مع إصرار واشنطن، بشكل خاص، على الاحتفاظ بقاعدة عسكرية دائمة تضمن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. ولا ننسى أن واشنطن ولندن (كما ذكر بذلك مسؤول استرالي مؤخراً) ترغبان في تأمين الوصول إلى النفط العراقي وضمان تدفقه إلى الأسواق العالمية. بيد أن هذه الامتيازات التي تسعى إليها العاصمتان في العراق، لا تأتي إلا من خلال نصر متعذر وغير متاح في الوقت الحالي. لقد كانت الأهداف السابقة أساس تدخل واشنطن ولندن في العراق وتجشمهما عناء القتال وتكبد الخسائر، وهما اليوم تريدان الانسحاب تاركتين نموذجاً لحكومة تمثيلية تبرر التعهدات التي قطعها بوش وبلير بإحلال الديمقراطية في العراق. والواقع أن الحكومة الحالية في العراق فشلت فشلاً ذريعاً في الوفاء بالمعايير السياسية التي وضعتها أمامها إدارة الرئيس جورج بوش. ورغم إخفاقها في حفظ الأمن وفرض القانون وعجز قوات الشرطة والجيش التابعة لها عن الاضطلاع بدورها، تطالب الحكومة العراقية بضرورة استمرار التواجد العسكري الأجنبي لحمايتها من الصراع الطائفي والفوضى المتفشية في المجتمع. واللافت أن التطلعات السياسية لواشنطن بنشر الديمقراطية في العراق، ثم انتقالها لاحقاً إلى باقي منطقة الشرق الأوسط، لم تعد دارجة على ألسنة "الجمهوريين" في الكونجرس". أما في لندن فقد غادر "توني بلير" منصبه تاركاً وراءه حرباً مستعرة ورأياً عاماً أكثر معارضة لمغامرته العسكرية، ومع ذلك يبقى تفكير "بلير" حول الحرب في العراق غامضاً وملتبساً، إذ على فرض أنه كان حسن النية، فإنه من المستحيل في ظل الوضع القائم، النظر إلى ما يحصل في العراق، من عنف وفوضى على امتداد الأربع سنوات الأخيرة، على أنه يسهم في تحسين حياة العراقيين أو يخدم مصلحة بريطانيا في المنطقة! ويبدو أن رئيس الوزراء البريطاني السابق، وخلافاً لما يروجه بعضهم، لم يكن له أدنى تأثير على صناع القرار في واشنطن، سواء تعلق الأمر بالعراق أم بالقضية الفلسطينية التي ما فتئت تؤرق الساسة في شتى أنحاء العالم. وإذا كانت بريطانيا قد حصلت على مكاسب نظير مشاركتها مع الولايات المتحدة في الحرب على العراق في شكل تسهيلات تجارية مع واشنطن، فإن ذلك ظل خافياً عن الرأي العام. كما أن التطلعات البريطانية بالحصول على امتيازات في العراق لاستغلال النفط، أو تأمين استثمارات هناك، يتطلب أولاً ظهور عراق جديد ينعم بالأمن والاستقرار، وهو غير متوفر في اللحظة الراهنة ولا يلوح له أثر في المستقبل المنظور. وبالطبع لا يختلف الوضع كثيراً بالنسبة لواشنطن التي منّت نفسها بغنائم حرب مجزية من خلال تأمين مصالحها المادية والاستراتيجية، لكنها وجدت نفسها أمام الحائط وهي تبحث سحب جنودها من العراق، لاسيما بعد تصاعد الأصوات المنادية بذلك في أروقة واشنطن، بل وحتى في بعض العواصم العالمية. ومع أن الهدف الأساسي للبيت الأبيض والبنتاجون كان إقامة قاعدة سياسية وعسكرية استراتيجية كبرى في العراق، إلا أن ذلك يستدعي بالضرورة عراقاً خالياً من العنف والفوضى وبعيداً عن التجاذبات الإقليمية، وهو أمر غير متأتٍ حالياً، ولن يكون حتى خلال السنوات القليلة المقبلة. فإنشاء قواعد عسكرية دائمة في العراق يتطلب على الأقل مناطق مؤمنة تخضع لسلطة عراقية موحدة وقوية قادرة على حمايتها. والحال أن العراق أبعد ما يكون عن واقع التهدئة والاستقرار باستثناء المناطق الكردية. ولا يوجد في العراق اليوم ما يوحي بأن الأمور تسير نحو الانفراج والتحسن أو نحو تشكل واقعٍ جديد يخفف من حدة الأصوات المطالبة بالانسحاب. وفي غياب الأمن والنظام ستتطلب القواعد الأجنبية الدائمة استمرار التدخل العسكري في العراق لتوفير الحماية والتموين لتلك القواعد. ومع أن خطوط الإمدادات يمكن الحفاظ عليها عن طريق الجو، إلا أنه لا مناص من الاعتماد أيضاً على القوافل البرية لإيصال الإمدادات إلى القواعد. وإذا ما لجأ المتمردون إلى استخدام صواريخ "أرض- جو"، كما استخدمت ضد الروس في أفغانستان، فإن ذلك يعني تكبيد المزيد من الخسائر للقوات الأميركية التي ستطال هذه المرة القوات الجوية. وفي هذا السياق فإن إقامة قواعد عسكرية دائمة في العراق، مع وجود حرب أهلية مستعرة، تقتضي تأبيد الاحتلال العسكري، وهو ما لن يحظى بتأييد شعبي في بريطانيا وأميركا. لقد بات واضحاً أن الأهداف الاستراتيجية الأميركية في العراق، والمتمثلة في إقامة قواعد دائمة وضمان الوصول إلى النفط، تتطلب حلولاً سياسيةً وعسكرية تفوق إمكاناتنا الحالية، وهي الإمكانات التي استُنفدت حتى النهاية وفقدت التأييد الشعبي. تلك الأهداف الاستراتيجية لا يمكن تحقيقها إلا بنصر واضح ضد التمرد في العراق، لا يملُّ بوش من الدعوة إليه والتشديد عليه، لكن ما من أحد في واشنطن يؤمن بإمكانية حصول ذلك في ظل الظروف الراهنة. ويبدو أن النقاش الدائر حالياً في واشنطن حول العراق، يقتصر على حلول افتراضية تعوزها الواقعية، حيث يتم الحديث عن انسحاب إلى داخل قواعد عسكرية في العراق، قد يطول بها المقام لأكثر من 50 عاماً، في تجاهل تام للواقع الأمني والسياسي المحيط بها. ومع أن بعضهم يحلو لهم تشبيه الحالة العراقية والرغبة في إقامة قواعد عسكرية هناك، بنموذج كوريا الجنوبية، فإنهم ينسون أن المثال الأخير كان نتيجة تحالف قادته الأمم المتحدة ونجح في إخراج قوات كوريا الشمالية المدعومة من قبل الصين من البلاد، عكس ما يجري في العراق اليوم. والنتيجة النهائية لذلك هي فقط صرف انتباه الرأي العام عن الحلول التي يصر البيت الأبيض على أنها "غير مقبولة"، والمتمثلة في الاعتراف بالواقع ومغادرة العراق في أفضل الظروف الممكنة، أي الانسحاب دون الاضطرار إلى القتال! ــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي مقيم بفرنسا ـــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيسز"