"يجعل استمرار هذا المنظر المروع لتشريد النساء والأطفال والرجال من بيوتهم وقراهم، جراء ما يتعرضون له من قتل واغتصاب وحرق للبيوت والقرى، من زعمنا بأننا مجتمع دولي، قادر على حماية البشر من أسوأ الانتهاكات التي يتعرضون لها"... كانت تلك هي الكلمات التي تفوه بها كوفي عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، في سبتمبر من عام 2006، ثم سرعان ما أعقبتها مظاهرات شعبية عارمة، شملت 50 مدينة في ذكرى "يوم دارفور". وقبل أيام فحسب، تطوع الرئيس الفرنسي الجديد، نيكولا ساركوزي،- المثير للجدل من "يمين الوسط" الفرنسي- بالتقاط زمام قيادة مبادرة دولية جديدة بشأن دارفور. فقد صرح "ساركوزي" خلال مؤتمر دولي عقد بعاصمة بلاده باريس قائلاً: "إن الصمت قاتل، وإنا لعازمون على حشد طاقات المجتمع الدولي كي يعلن أنه كفى ما يحدث في إقليم دارفور". وإن علينا الترحيب باختيار ساركوزي لهذا التحدي العالمي الذي تجسد في استمرار الأزمة الدارفورية إلى عامها الرابع، إثر القضاء على التمرد الذي اندلع في الإقليم، على يد مليشيات "الجنجويد"، سيئة الصيت. وفي واقع الأمر، فإن ساركوزي يمثل الخيار الأفضل لتولي زمام المبادرة الدولية هذه، خاصة بعد الضرر الذي تعرضت له صورة الرئيس الأميركي جورج بوش، في الجزء الغالب من العالم، وعلى إثر مغادرة رئيس الوزراء السابق توني بلير لمنصبه في السادس والعشرين من الشهر الماضي. وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت في عام 2004، أن إقليم دارفور يواجه أكبر أزمة إنسانية على نطاق العالم كله، بينما اتسمت الولايات المتحدة بالصراحة التامة في وصفها لما يجري هناك بأنه جريمة من جرائم الإبادة الجماعية. وكما نذكر، فإنه خلال الآونة الأخيرة، صرحت وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس بقولها إنه لم يعد في وسع العالم الاستمرار في الجلوس على كراسي الفرجة والانتظار. وإلى ذلك فقد حرص رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، على القيام بزيارة وداع أفريقية استغرقت خمسة أيام، قبيل مغادرته لمقر عمله السابق في 10 داونينج ستريت، مع ملاحظة أنها لم تتضمن أي مرور أو توقف في دارفور. غير أنه بعث برسالة خطية إلى "خوسيه مانويل باراسو"، رئيس المفوضية الأوروبية، اقترح فيها عليه ضرورة تفعيل الاتحاد لدوره وعمله من أجل حل النزاع في الإقليم. وجاء في تلك الرسالة قوله صراحة: "يهدد سلوك الحكومة السودانية بتدهور الوضع الحالي إلى ما هو أسوأ منه وأكثر ترويعاً". كما نبه بلير في الرسالة نفسها، إلى التداعيات الكارثية المحتملة على المنطقة الإقليمية، فيما إذا لم تحل المشكلات التي تواجهها بالسرعة المطلوبة، خاصة حالة عدم الاستقرار التي تهدد الجارة تشاد، بسبب استمرار النزاعات المسلحة على امتداد الشريط الحدودي المشترك بينها وغربي السودان. والحقيقة أن هذه الأزمة الدارفورية تلحق ضرراً بالغاً بالسودان والعالم العربي، بقدر ما تلحق الضرر نفسه بسمعة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة. وقد جانب السودان الحكمة والصواب إلى درجة كبيرة، نتيجة لتعنته ورفضه التعاون مع محكمة الجزاء الدولية، وعجزه عن تسليم المتهمين المطلوبين في قضايا تتعلق بارتكاب جرائم الحرب ضد المدنيين. وتضاف إلى تلك حقيقة أخرى ألا وهي أن عدد ضحايا هذا النزاع من الضخامة بحيث يعجز المرء عن الصمت على حجم هذه المأساة الإنسانية المروعة. ذلك أنه يعتقد أن ما يتراوح بين 200 إلى 400 ألف من المواطنين قد لقوا حتفهم، بينما فر نحو مليونين آخرين من بيوتهم وقراهم هرباً من جحيم النزاع والمواجهات المسلحة، في حين يعتمد في الوقت الحالي حوالي ثلاثة ملايين مواطن من مواطني الإقليم اعتماداً كلياً على الدعم الإنساني والغوثي الذي يقدمه لهم المجتمع الدولي. وليس أدل على هذه الحقيقة من أن منظمة الصليب الأحمر الدولي وحدها، لها من الموظفين العاملين في السودان الآن، ما يقارب الألفي موظف، يشاركون في إدارة وتنفيذ أكبر عملية إنسانية للمنظمة، على نطاق العالم بأسره. هذا وقد لفتت المنظمة هذه الأنظار مؤخراً إلى فرار أعداد كبيرة من المواطنين الذين تستهدفهم عملياتها الإنسانية إلى مناطق نائية من الإقليم، على إثر تصاعد النزاعات المسلحة مؤخراً، ما يجعل الوصول إليهم ومد يد العون الإنساني لهم، في غاية الصعوبة على عمالها وموظفيها. وفي اعتقادي الشخصي أن المال والصين يمثلان معاً ثنائي العقبة الرئيسية التي أقعدت المجتمع الدولي عن القيام بما يلزم ويليق به من دور قيادي في حل هذه الأزمة. والحق أنه ما من أي دولة من الدول تضمر نوايا بغزو السودان بغية وضع حد للمجازر الجارية بحق مواطني دارفور، ويشمل هذا النفي بوجه خاص كلاً من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. فالحقيقة التي لا مراء فيها، أن من شأن الغزو العسكري أن يريق المزيد من الدماء على ثرى الإقليم وأن يزيد نار النزاع اشتعالاً بدلاً من أن يطفئها. ولذلك فقد صدر البيان الختامي لقمة "الثماني" المنعقدة في شهر يونيو المنصرم، واضحاً في تأكيده وتشديده على "أن ليس ثمة حل عسكري لنزاع إقليم دارفور". بيد أن الصين وحدها، تتكفل بعرقلة جهود مجلس الأمن الدولي الرامية إلى ممارسة المزيد من الضغوط على حكومة الخرطوم، بهدف إرغامها على تغيير سلوكها إزاء الأزمة. وتتلخص هذه المعضلة في أن وصول أي قوة حفظ سلام دولية ذات كفاءة وأهلية في أداء مهامها في الإقليم، يتطلب الحصول على موافقة مسبقة من حكومة الخرطوم. ولكن المشكلة أن بكين تعد الآن لاعباً رئيسياً في القارة الأفريقية كلها. أما في السودان، فالحقيقة أنها تشتري نسبة تصل إلى 65 في المئة من إجمالي إنتاج النفط السوداني. وفي المقابل، فهي تبيع الخرطوم أسلحتها وعتادها العسكري. وهذا ما يفسر رفضها لأن يقف إقليم دارفور حجر عثرة أمام هذه الترتيبات الاقتصادية العسكرية بينها والخرطوم. وعليه فليس مستغرباً الرفض الصريح الذي أدلى به المبعوث الصيني الخاص للسودان، في إطار المحادثات الأخيرة التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس بقوله:"ليس هذا هو الوقت الملائم البتة للحديث عن فرض أي عقوبات إضافية على السودان". أما استجابتي الشخصية إزاء هذا الموقف الصيني غير المبالي بالأزمة وتداعياتها الكارثية، فهو التحريض ضد انتظار بكين، التي قد يطول بها الأمد، قبل أن تشعر بأن الوقت الملائم لفرض تلك العقوبات وممارسة المزيد من الضغوط على حكومة الخرطوم قد أزف. ومما يؤسف له حقاً، غياب الاتحاد الأفريقي عن لقاء باريس المذكور، دون أسباب مبررة. لكن ومع ذلك يتواصل أمل العالم في الحصول على تعاون الاتحاد الأفريقي، طالما أن له قوة قوامها 7 آلاف جندي في الإقليم. وعلى رغم ما تثيره الحقائق التي سوف أوردها من استغراب لدى بعضهم، فإن هؤلاء الجنود لم يقبضوا رواتبهم في الآونة الأخيرة، بينما لا تزال القوة الأفريقية نفسها ضعيفة العدد وهزيلة الأداء، إلى جانب محدودية وضيق الصلاحيات الممنوحة لها أصلاً. وإلى جملة المصاعب والتحديات الأخرى التي تواجهها هذه القوة، فإنه لا مناص من القول إن المساحة الجغرافية الشاسعة التي تعمل فيها، تضيف إلى تلك المصاعب ما يفوق الإمكانات. وعليه فإن الأمل الوحيد الباقي للمجتمع الدولي، هو نشر قوة هجينة، قوامها جنود الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة. وفي الوقت الذي أعلنت فيه حكومة الخرطوم موافقتها المبدئية على نشر هذه القوة، فقد أبدت فرنسا عزمها على أن يكون لها نصيب الأسد من المشاركة في تشكيلها. وها نحن في انتظار حلول شهر أغسطس المقبل، لكي نرى الخطوة التالية باتجاه تنفيذ هذه المبادرات.