هارولد مايرسون

لقد أضحى في وسع العولمة تخريب كل الأشياء تقريباً، بما في ذلك معتقداتنا الراسخة القديمة، عن الكيفية التي يجب أن يعمل بها اقتصاد الولايات المتحدة. ولتأكيد هذه الحقيقة، فلنلق بنظرة سريعة على صناعة الأدوية والنزاع المستمر الذي تثيره إدارة الأغذية والأدوية الأميركية حول الصناعات الدوائية المستوردة. وقد كانت المادة الرئيسية التي يدور حولها ذلك النزاع، هي الاعتقاد السائد بأن استيراد الأدوية والعقاقير الطبية من كندا، يهدد صحة المواطنين الأميركيين. ثم دعنا نأخذ كذلك بالحجة المحافظة القديمة، القائلة إن على الحكومة أن تبتعد تماماً عن مجال الاستثمار، وألا يكون لها أي دور في أنشطته. وإذا ما عدنا إلى قطاع الصيدلة والأدوية، فقد كشف تقرير نشره "مارك كاوفمان" في عدد صحيفة "واشنطن بوست" في عددها الصادر بتاريخ 17 يونيو الماضي، أن نسبة 20 في المئة من الأدوية العامة التي يشتريها الجمهور من الصيدليات، دون الحاجة إلى وصفة طبية، وكذلك 40 في المئة من مكونات الأقراص التي تبيعها كبرى الشركات الصيدلانية الأميركية، وهي جميعها ما تروج له إدارة الأغذية والأدوية وتصفه بالسلامة والأمان، قد صنعت إما في مصانع هندية أو صينية، يرجح إصابتها بالصواعق قبل أن تفحص مصنوعاتها ومنتجاتها إدارة الأغذية والأدوية، في واقع الأمر، مع العلم أن تلك المنتجات تباع في الأسواق الأميركية بالسعر العادي المحلي لمصنوعات الأدوية الأميركية. ومع ذلك يلاحظ أن الإدارة المشار إليها لا تبدي اهتمامها وقلقها ومخاوفها من الأدوية المستوردة من الصين والهند، وإنما من تلك المصنعة في الجارة القريبة كندا! وضمن ذلك فلننظر هنا إلى البيان الذي أصدرته "الإدارة" هذه في شهر أبريل من العام الماضي، بخصوص الجهود التي بذلتها ولاية نيفادا لاستيراد الأدوية والعقاقير الطبية من كندا. فقد جاء في البيان:"هناك ضعف في مستوى الرقابة على نظم توزيع الأدوية من قبل حكومات الدول التي تستورد منها الأدوية المصدرة إلى بلادنا". والشاهد أن هناك الكثير من الشكوك حول صحة ما ورد في البيان المذكور. بل الواجب هو إثارة السؤال التالي: هل هناك ما هو أسوأ من مستوى رقابة "إدارة الأغذية والأدوية" على توزيع الأدوية المستوردة التي تباع بأسعار متضخمة ومبالغ فيها لجمهور المستهلكين الأميركيين، وهي المنتجات التي تصنع بأبخس الأثمان في الدول التي تستورد منها؟! فعلى رغم فيضان تدفق منتجات الأدوية والعقاقير الطبية الهندية والصينية الملحوظ، فإن العديد من التقارير، يشير إلى أن "الإدارة" المعنية لم تقم إلا بإجراء حوالي 32 حملة من حملات التفتيش على مصانع الأدوية الهندية خلال العام الماضي، بينما لم تتجاوز الحملات ذاتها الخمس عشرة في المصانع الصينية. بينما تشير الإحصاءات إلى أن 1.222 حملة كهذه قد أجريت داخل الولايات المتحدة الأميركية، خلال العام نفسه. وفي حين تتم هذه الحملات في شكل زيارات مفاجئة غير معلن عنها هنا في أميركا، يلاحظ أن "الإدارة" تهاتف الجهات الهندية والصينية مسبقاً، وتعلنها عن الموعد الذي ستجرى فيه الحملة!
وبما أن ذلك هو حال التعامل مع صناعات الأدوية والعقاقير الطبية في كل من الصين والهند، فلماذا كل هذا القلق الذي تبديه "الإدارة" على التعامل التجاري في الأدوية مع الجارة كندا؟ فإذا كانت هذه الأخيرة تفتقر إلى نظام ناجع وفاعل في الرقابة على الأدوية التي تستوردها وتعيد بيعها، فإنه من المستحيل أن يكون نظامها أكثر سوءاً من نظامنا الرقابي بأية حال من الأحوال. وبما أن معدل سوء الجهاز الرقابي الدوائي هذا بيننا والجارة كندا، إما متكافئ أو أن ميزانه يميل قليلاً لصالح كندا وتفوقها فيه علينا، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن فهمه في هذا التعنت والحظر الذي تبديه "الإدارة" في التعامل التجاري معها في مجال الأدوية، هو انحياز "الإدارة" للشركات الدوائية المحلية، بغية تمكينها من جني أرباح طائلة على حساب المستهلك الأميركي، من الأدوية والعقاقير الطبية المنتجة بتكلفة أقل بما يقاس بكثير، في كل من الصين والهند، نظير ارتفاع تكلفة الإنتاج النسبي في كندا. أما الذي يفسر هذا الانحياز، فهو اندراج عدد من كبريات هذه الشركات، في قائمة عمالقة المتبرعين للحزب "الجمهوري".
وبعد فلننتقل إلى موضوع آخر ألا وهو ملكية الحكومة الأميركية للشركات والاستثمارات الخاصة. فالمعروف أنه ليس من أحد من ممثلي "اليسار" الأميركي، دعا إلى تأميم الشركات الخاصة، خلال الستين عاماً الماضية كلها. غير أنه سبق لنا أن دعونا خلال عقد الثمانينيات إلى ما أطلق عليه حينها لفظ "السياسات الصناعية" حيث جرت مناقشة ما إذا كان ينبغي للحكومة أن تستثمر في صناعات استراتيجية بعينها أم لا؟ وما أن طرحت هذه الفكرة، حتى هزمت شر هزيمة من قبل دعاة السوق الحرة، الذين ردوا عليها بعدم أحقية الحكومة في دخول حلبة التنافس التجاري الاستثماري بأية حال. وإذا كان ذلك هو موقف هؤلاء، فكيف تمكنت حكومات الدول الأجنبية –وبخاصة الصين- من شراء المزيد والمزيد من أسهم شركاتنا واستثماراتنا التي يقوم عليها اقتصادنا القومي كله؟! فهل الفكرة هنا أن تحرم الحكومة الأميركية من التملك في مؤسسات القطاع الخاص، بينما يفتح الباب على مصراعيه أمام تملك الحكومات الأجنبية لاقتصادنا؟


كاتب ومحلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"