الندوات التلفزيونية والمقابلات الصحفية والحوارات في المؤتمرات الثقافية، في دول الغرب وإعلامه خاصة، مناسبة للتحدث صراحة عن قضية ما، أو معالجة مشكلة ما، أما في عالمنا العربي فالوضع ليس دائماً بهذه البساطة! ويكفي أن تشاهد العديد من نماذج "حوار الطرشان" في محطات التلفاز العربية، أو تتابع بعض الحوارات الصحفية، أو تحضر مشاركاً أو ضيفاً في أي ندوة عربية، لترى بعينيك وتسمع بأذنيك عم نتحدث... وعم نسكت!
لماذا نحن مغرمون مثلاً، بأن نقول ما يحب أن يستمع إليه الجمهور لا ما هو الحقيقة والواقع؟
لماذا لا نجرؤ على مصارحة الجمهور وتشريح الواقع أمامه وإشراكه في مسؤولية الحل، بدلاً من تسطيح الأمور وتجنب التفاصيل والاختفاء خلف المجاملات والممنوعات والمحرمات؟
لماذا يتعامل الإعلام مع الجمهور في العالم العربي كإنسان بلا حول ولا قوة ولا تأثير، بل كشخص قد يغمى عليه أو يقف قلبه عن النبض، أو تنهار معنوياته إن عرف الحقيقة ورأى بأم عينه جوانب التقصير؟ ما السبب، يتساءل المفكر البحريني د. محمد جابر الأنصاري، في تنامي "هذه الفجوة الشاسعة المخيفة بين ضجيج الكلام العربي في الفضائيات والندوات والصحف والمجلات وسائر المطبوعات والمنابر، وبين حقيقة الواقع العربي"؟
لماذا لا نرى مثلاً تياراً حياً، يصل بين القول والفعل في الحياة العربية؟ ولماذا لا يحمل التقصير والفشل أي دلالة رادعة أو محفزة بالنسبة إلينا؟
لماذا مثلاً، لا نعدل قوانيننا وأفكارنا وطباعنا على ضوء كل التجارب والمشاكل والإخفاقات عندما تتراكم في حياتنا السياسية والاجتماعية والقانونية وغيرها؟
لماذا حقاً، نقدس هذه الصورة الإعلامية الرائعة لأنفسنا، ونتجاهل أي تحليل علمي لواقعنا ومستقبلنا، ولا نتصدى فكراً وعملاً لحل مشاكلنا؟
انظر مثلاً، إلى اجتماعات الأوروبيين وهم يتصدون لمشاكل الوحدة الأوروبية المعقدة، كيف يصلون إلى مقر المؤتمر وكيف يتباحثون وماذا يقولون في مؤتمراتهم الصحفية وبياناتهم الختامية؟ قارن هذا باجتماعاتنا العربية والإسلامية مثلاً!
خذ مثلاً، ندواتنا بمحاورها المختلفة بل ومؤتمراتنا، هل نحن نعقدها بهدف الخروج بحلول واقعية لمشاكلنا أم نحاول من خلالها إرضاء مختلف الأطراف والتيارات، وتسكين ضغوط الإسلاميين والليبراليين وإرضاء دول الخليج ودول الشام ومصر وشمال أفريقيا؟
يقف مدير المدرسة الثانوية في الولايات المتحدة أو رئيس الشركة في اليابان وألمانيا فيتحدث بلغة بسيطة وواقعية وصريحة عن مختلف المشاكل. أما نحن فنلتفت إلى البلاغة والفصاحة، ومراعاة عواقب الكلام على دوام المناصب، وغير ذلك من الاعتبارات.
خذ كذلك الأفلام السينمائية العربية، وأنظر كم هي محدودة مواضيعها، وكم تتحاشى أو تُجبر على تحاشي تعقيدات الواقع العربي، وتهيمن عليها سياسة التسويق ومراعاة مختلف البيئات، تماماً كما تتحكم بالكتب والصحف والمسلسلات التلفزيونية وربما الأغاني.. نفس الاعتبارات!
الإعلام والبيئة الثقافية العربية وكل الضغوط الفكرية والرقابة الخارجية والداخلية، تجعل الكاتب والمتحدث والفنان والرائد والقائد والمبدع والمقلد والمخلص والمفلس.. لا يقول الحقيقة كاملة، فيكتفي ببعضها.. بل ربما يقول نقيضها!
ليس ثمة علاقة مسؤولة، كما يقول د. الأنصاري نفسه، "بين ضجيج وادعاء وتزوير وكذب من ناحية، وبين واقع آخر نقيض ومختلف تماماً ينطق بعكس ذلك، نتهرب من حقائقه ووقائعه ونكابر بشأنها -أنظمة وشعوباً وقادة فكر- مكابرات لن يسجلها التاريخ، ولا المستقبل، لا لصالحنا ولا لبقائنا في هذا العصر، ما تفسير هذا التناقض"؟
لماذا، عندما نختلي بأنفسنا، أو نتحدث في وسط كتوم ومع المقربين، نتحدث بصراحة وننتقد كل شيء، وعندما نعتلي المنابر ننسى الحقائق ونطمس الوقائع ونتهم الاستعمار ونلوم المشارق والمغارب؟
إلى متى نبقى مجبرين على البقاء محاصرين في مملكة "ينبغي" و"المفترض" و"المتوقع" و"المطلوب"، بينما نحن نبرر كل صور البؤس والتطرف واللاعقلانية في حياتنا؟
لماذا نتمنى شيئاً ونمارس أشياء تبعدنا عما نريد؟ لماذا لا نتعظ من تجارب بقية الشعوب؟! هذه ملاحظة أخرى للأنصاري يقول فيها:"عندما تخفق تجاربنا القومية في المنعطفات التاريخية المريعة نسمع العبارة المعلبة الجاهزة والمستهلكة:الخطأ في التطبيق وليس في النظرية والمبادئ، حسناً، ولكن إلى متى ستبقى مبادؤنا معلقة في سماء اليوتوبيا والمثاليات الأفلاطونية؟ ومتى سنتخذ الوسائل العملية لإنزالها على سطح الأرض؟ ولماذا بقينا عقوداً بعد عقود ونحن نعلن أفضل المبادئ ونعيش أسوأ الأوضاع؟ ما تفسير هذا التناقض الحاد المقيم؟ ومن المسؤول"؟ (شؤون عربية، 115، 2006. ص 14).
كتب التاريخ لدينا مليئة بعبارة "كان الحاكم تقياً صالحاً محباً للناس ولكنه محاط ببطانة سوء". من جاء بهم؟
ما يُقال عن القرارات السياسية يُقال لنا مثله في فهم مقاصد الدين والاجتهاد، فنحن نمنع التفكير الحر وتبادل وجهات النظر والرؤية العصرية للدين ومكانته، وعندما يهيمن التعصب والتطرف والإرهاب ويتوارى الاعتدال والتسامح، ويستغل بعض أنماط الفهم الديني لتحطيم حياة المسلمين وتدمير مصالحهم وتلويث سمعتهم، نصحو فجأة من غفوتنا ونبرر للكارثة بأن هذا فهم سقيم للدين، وأن جوهر الدين الإسلامي شيء وهذا الفهم المنحرف المتعصب العنيف شيء آخر: لماذا وضعنا كل البيض في سلة المتزمتين ولم ننتبه إلى مخاطر الانحراف منذ البداية؟
ثم لماذا، كما يتساءل بعض المفكرين العرب، جل مناداتنا الجماعية سياسية؟ لماذا طغت العروبة السياسية والإسلام السياسي بل وحتى الوطنية السياسية على وعينا العام وأفكارنا النهضوية؟
لماذا تتفجر شوارع العالم العربي والإسلامي غضباً لأسباب سياسية أو دينية، أو بسبب منازعات الحدود وصراعات القبائل ونتعايش في أمن وهدوء مع هذا المستوى المعيشي المتردي والخدمات البائسة وألوان التخلف.. في بلداننا؟
وحتى عندما نغضب، لماذا لا نحول هذه الطاقة العاطفية إلى مصدر منتظم للدفع والتحريك، بدلاً من تركه سيلاً هادراً مدمراً.. سرعان ما يخمد؟
ففي لحظات الكوارث القومية، يلاحظ د. الأنصاري في المقال نفسه، "تجد الشعور العربي واحداً من المحيط إلى الخليج يقطر ألماً وحزناً، لكنك تلاحظ في الوقت ذاته عجز الأطراف العربية -شعبية ورسمية- عن ترجمة هذا الشعور الجارف إلى عمل جمعي بمؤسسات وآليات قادرة على الفعل، هذه الدراما القومية تتكرر اليوم، ولا نرى مؤشرات ملموسة تبشر بتخطي هذا الفصام المؤلم، وعلى ما يتصف به الفرد العربي من مواهب وقدرات، فإن الفريق العربي -فريق العمل المشترك- على مختلف المستويات يعاني إعاقة لا ندري متى سيتم التحرر منها".
وإذا كنا في قراراتنا الأخلاقية الخاطئة وانحرافاتنا السلوكية الشخصية نبالغ في التركيز على غواية الشيطان وحبائل إبليس اللعين، فإننا في الحياة السياسية نجد شيطان الغرب والإبليس الأميركي على وجه التحديد، موضع الملامة في معظم الأحيان. إنه المشجب القوي في غرفة الأوهام التي نحبس أنفسنا فيها منذ سنين طويلة!