كنت أعتقد، أو ربما كنت أتمنى، أن تكون "صحافة القهاوي" قد انتهت واندثرت بغير رجعة من صحفنا الخليجية، خاصة ونحن نعيش عصراً يعتمد على العلم وينطلق من ثورة معرفية شاملة تتيح إدراك حقيقة الأمور وأبعاد القضايا والموضوعات التي تتصدى الصحف للكتابة عنها، في صفحات الرأي أو المقالات والأعمدة اليومية، بل إنه ليس عيباً أن نسأل أصحاب الاختصاص والمعرفة والخبراء قبل أن نتعرض للكتابة في موضوعات أقل ما تعكسه الجهل المطبق لمن يكتبها، بل وتدل بوضوح كاف على مدى سطحية تفكيره، وتدني لغته وسذاجة طرحه.
لقد كنت آمل أن يكون قد اختفى حديث "المصاطب" و"طق الحنك" من صحف حديثة الصدور لا تزال تحبو في عالم الصحافة لإثبات مصداقيتها، وتحاول أن توطد أقدامها على طريق صاحبة الجلالة، فتحترم عقلية القارئ ولا تسمح لأشباه المثقفين، وأدعياء الكتابة، بأن يفرضوا أنفسهم ويكتبوا فيها.
لقد فاجأتنا إحدى الصحف المحلية التي تصدر في إحدى الدول الخليجية بمقال موتور يفتقر إلى الموضوعية، وتغيب عنه المصداقية، ويتنكر لكل جهد وطني مخلص، ويحقد على كل إنجاز علمي شريف، ويشكك في صروح بحثية بناها أبناء الخليج بكل جد وإخلاص وتفان.
ورغم قناعتي الشخصية بأن هذا المقال لم يلتفت إليه أحد، وربما لم يقرأه سوى كاتبه، فإن من حق القارئ أن يعرف حقيقة ما جاء في هذا المقال، ويتفهم الهدف الكامن وراء كتابته، حيث لم يتوان الكاتب عن تعميم سبه وقذفه وتوجيه اتهاماته جزافاً لكل مراكز البحوث والدراسات في عالمنا العربي، وركز جل حقده على المراكز البحثية في دولة الإمارات الحبيبة، وربما نجد أنفسنا في النهاية في حاجة للدعاء له بالشفاء من "كتابة القهاوي" قبل أن يدمن مسألة الذم والقدح، ويواجه ما لا تحمد عقباه.
لقد أصبحت الصحافة في معظم الدول العربية "مهنة من لا مهنة له"، فكل من هب ودب يكتب في أي موضوع ويتصدى لأي قضية، فقد أضحت "سبوبة" ومصدراً للرزق، ولا يهمه ما يكتبه، فالمهم أن يرص الكلمات ويلحق بالمطبعة، وليس مهماً أن تتسم هذه الكلمة بالأمانة أو شرف البحث والتدقيق أو المصداقية.
لقد سقط الكاتب في هوة التعميم وإطلاق الأحكام المسبقة، مما ينم عن مدى افتقاره إلى الموضوعية وعمق جهله بطبيعة عمل ونشاط مراكز البحوث والدراسات في الوطن العربي عامة، وفي دولة الإمارات على وجه الخصوص، فأحد هذه المراكز التي يطالب سيادته بتقييمها، يضارع المراكز البحثية على المستوى العالمي، ويجمع بين مسؤولية خدمة المجتمع وتقديم التوصيات لصناع القرار، وهو أمر لم تنجح فيه كثير من مراكز البحث والدراسة على المستويين الإقليمي والعالمي، ونتيجة لقصر نظر كاتبنا، لم يدرك أن هذا المركز أصبح قبلة لاستقبال كبار السياسيين والخبراء والعلماء والمتخصصين للمشاركة في فعالياته المختلفة.
وربما يكون الكاتب من عشاق "البوفيهات"، لأنه لا يعرف من الندوات والفعاليات التي تقوم بها المراكز البحثية سوى "البوفيه وأطايب الأطباق والمزات"، وقد يكون على قناعة بأن الوصول إلى عقل الكاتب يتم عن طريق معدته، لذا فإن عليه أن يتوقف عن ارتياد "بوفيهات الفعاليات" ويتجه إلى موائد الرحمن، وليترك البحوث والدراسات لمن يريد أن يغذي عقله ويزيد معرفته.
لم ير الكاتب من "مطبوعات وإصدارات" المراكز البحثية سوى "السطحية" و"السذاجة"، مما يدل بكل صدق على عدم دراية الكاتب بمنظومات العمل التي تختفي خلف أي إصدار، وليس أقلها تكليف ثلاثة محكمين من الأساتذة والمتخصصين والخبراء المعروفين في مختلف مجالات العلم بمراجعة وتقييم كل ما يصدره أحد المراكز المرموقة في منطقة الخليج، والذي وصل حجم إصداراته على مدى عقد من الزمن ما يزيد على 550 إصداراً، بين كتب أصيلة ومترجمة ودراسات مختلفة ومحاضرات متنوعة، معظمها باللغتين العربية والإنجليزية، وقد حصد كثير منها جوائز من معارض كتب محلية وإقليمية وعالمية نتيجة لعمق طرحها ومصداقية مضمونها. وهنا نجد أن الكاتب قد ارتكب العديد من الأخطاء، سواء عن قصد أو دون قصد، فقد أخطأ أولاً في حق المراكز البحثية التي تحترم عقلية قرائها، وأثبت جهله المطبق بأسلوب عملها، وأخطأ ثانياً في حق من يتابعون إصدارات هذه المراكز لأنه اتهمهم ضمنياً بـ"السذاجة" و"السبهللة"، ما يعني مسبقاً أنه ليس ممن يقرؤون ما تصدره هذه المراكز من خلاصة فكر الخبراء والمتخصصين، وأخطأ ثالثاً في حق من يكتبون في إصدارات هذه المراكز، لأنه شكك في مضمون ما يكتبونه، وهذا دليل واضح على عدم درايته أو إلمامه بما طرحوه من فكر وعلم، فإذا كان لم يقرأ هذه الإصدارات فتلك مصيبة لأنه "شاهد ما شافش حاجة"، وإن كان قد قرأ ولم يفهم فتكون المصيبة أعظم لأنه اعتراف مباشر وصريح بسطحية فكره وضعف إدراكه، لذلك فقد أطلق اتهاماته دون دليل، وأخطأ رابعاً في حق نفسه لأنه كتب في موضوع لم يدر عنه شيئاً، مما يجعل القارئ يتشكك في حقيقة نواياه، وهدفه من كتابة هذا المقال.
وإذا تجاوزنا عن لغة الكاتب الرخيصة، واتهاماته الباطلة، وعدم مصداقية ما كتبه، وافتقاد المضمون للأمانة الصحفية، فإننا أمام معضلة "ترهل الكتابة" و"الأمية الصحفية"، حيث باتت الصحف مرتعاً لمن يريد أن يتطاول أو يشكك أو ينفث حقده تجاه أي جهة دون حسيب أو رقيب تحت زعم حرية الرأي.
لقد حاولت جاهداً أن أجد مبرراً واحداً لما ورد في المقالة من تهم اعتباطية، أو أجد سبباً لهذا الهجوم على المراكز البحثية العربية دون أساس أو دليل، متجاوزاً ضعف محتواها، وافتقارها لأبسط أسس ومبادئ الأمانة العلمية، وضحالة الرؤية، فلم يحضرني سوى أن يكون الكاتب متأثراً بقصة "قهوة المواردي"، فإحدى شخصيات القصة التي تتفلسف بمعرفة كل شيء وتطلق الأحكام جزافاً على أساس أنها تعلم بواطن الأمور، لم تكن أكثر من جاهل لا يدري عن دنياه شيئاً، غرَّه تحمُّل الناس لأحاديثه لأنهم يعرفونه جيداً، ولا يريدون أن يجادلوه أو يردوه عن جهله لأنه أصبح في النهاية "نكتة" يضحكون عليها، ونادرة يتندرون بحمقها.
لذلك فإننا إذا أسبغنا على الكاتب صفة الصحفي فقد ظلمناه، لأنه دخل الصحافة على حين غفلة من الزمن، ليكتب في موضوعات لا يعلم من أمرها شيئاً، وإذا اعتبرناه شاعراً، فإنه لا يشعر بأي شيء يعود بالنفع على نفسه قبل مجتمعه ووطنه، ولا يزال في حاجة إلى إدراك أبعاد ما يمكن أن يعبر عنه بصدق ومصداقية، وإذا كان كاتباً فقد ظلمنا الكتاب، لأنهم منه براء، فهو لا يملك أدوات الكتابة وناصية العلم الذي يسمح له بعمق البحث.
أعتقد مخلصاً أن الكاتب مؤمن بمقولة أحد "حكماء" هذا الزمان التي تشير إلى أن "العلم لا يُكيَّل بالباذنجان"، فمقاله الذي يتهم فيه المراكز البحثية العربية بالقضاء على الإبداع، لم يوضح أي إبداع يقصده، فإذا كان حضرته يقصد إبداع المدَّعين وفاقدي الإدراك من أمثاله فقد صدق، أما إذا كان يقصد الإبداع الذي نعرفه نحن من حيث إنتاج الأفكار الجديدة والخارجة عن المألوف والتي تعود بالنفع والفائدة على المجتمع والقابلة للتنفيذ، فهو أمر ترحب به وتقوم به العديد من المراكز البحثية في منطقة الخليج، وتزخر المكتبات بالكثير من إنتاجها الفكري الإبداعي، وليس لنا ذنب ولا نلومه على أنه أحد الأميين الذين لا يقرؤون، لذلك فهم لا يستطيعون أن يفرقوا بين الإنتاج الرصين للمراكز البحثية وإنتاج "القهاوي".