ليست مشكلة المسجد الأحمر الذي اعتصم فيه المتشددون من الطلبة وغيرهم، أولى مشكلات باكستان مع الأصولية، ولن تكونَ آخِرَها. فقد تكاثرت الجماعات الإسلامية المتشددة في باكستان خلال العقدين الماضيين بسبب التدخلات والتداخُلات مع أفغانستان؛ لكنْ ليس لذلك فقط. فمشكلة باكستان العميقة أنها كيانٌ قام لغرضٍ معيَّنٍ، وهو منذ قيامه يؤدي وظائف متعددة، كلُّها لا علاقة لها بالغرض الذي قامت الدولةُ من أجله. إذ على مدى أكثر من خمسمائة عامٍ ظلت الشعوب التركية المسلمة تغزو الهند، وتُقيمُ الدولَ فيها، دون أن تتمكن من دفع أكثرية سكانها لاعتناق الإسلام. ولذلك عندما أخمد البريطانيون تمرد العام 1857م، وبخموده انتهت دولة المغول الإسلامية هناك، ما كان عدد المسلمين يزيد على الـ20% من عدد السكّان. وقد وعت الحركة الوطنية الهندية بزعامة المهاتما غاندي خطورةَ الانقسام الممكن ضمن الأمة على أساسٍ ديني، فاستوعبت كثيرين من رجالات المسلمين ضمن زعامة حزب "مؤتمر عموم الهند"، واعتمدت على الإحياء القومي الموحِّد. لكنها ما استطاعت اختراق مناطق الأكثرية الإسلامية في السند وكشمير والبنغال. إذ في مناطق الكثرة الإسلامية تلك ظهر وعيٌ أو إحياءٌ متراكب: إثني/ديني. وهكذا وفي النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي، قامت نخبةٌ من برجوازية المدن المسلمين بتأسيس حركة وطنية منفصلة، دعمها المستعمرون البريطانيون، وأدَّت إلى قيام دولة باكستان بمجرد جلاء البريطانيين عام 1947. ولا تَسَلْ عن الفظائع والمذابح التي رافقت تلك النشأة. فعشرات الملايين من المسلمين في المناطق التي كانوا فيها أقلية هاجروا باتجاه دولة الإسلام الجديدة، بينما هاجر ملايين الهنود الهندوس باتجاه المناطق التي قامت فيها دولة الهند الحالية. وبين الهجرة والتهجير مات عدةُ ملايين من البشر أو قتلوا أو هلكوا على الطرقات لا فَرْق!
وحفلت النشأة الباكستانية بالمشكلات المستعصية. فكشمير ذات الأكثرية المسلمة، ما أمكن الحصولُ عليها، ولذلك نشأت فيها حركة تحرير ما تزال قائمةً في الجزء الباكستاني حتى اليوم، وكانت قومية وهي الآن إسلامية، وكانت سبباً في حربين بين الدولتين، وفي آلاف المناوشات. والمشكلة الكبيرة الأُخرى هي المشكلة الإثنية-الجغرافية أو الجغرافية/الإثنية. فباكستان نشأت في جزءين منفصلين:الشرقية في البنغال، والغربية في السند والبنجاب، وتخترقهما أقاليم هندية. بيد أنّ الانفصال الذي حدث عام 1972 سهّله التباعُدُ الجغرافي ولم يصنعه. فالافتراقُ الإثني بين الطرفين صعّد من الخلافات ودفع البنغاليين القوميين للاستقواء بالهند (عدوّ الأمس) على إخوانهم في الدين، بحجة أنهم يضطهدونهم قومياً. وقد انفصلوا وصنعوا دولة بنغلادش عام 1972 بعد أن هزم الهنود الجيش الباكستاني آنذاك. وبنغلادش (وعدد سكانها مائة مليون) من أفقر دول العالم، وقد تعطّل النظام السياسي فيها مراراً، ويحكمها الجيش الآن بقانون الطوارئ، بعد أن تعذر عبر عقدين حلّ النزاع بين السيدتين اللتين تتنازعان على رئاسة الوزارة!
أما باكستان الغربية فقد حفل تاريخها بالانقلابات العسكرية، وذلك بسبب النزاع على السلطة تحت عناوين إثنية والآن إسلامية. فقد اختلط في تلك الدولة منذ الخمسينيات الإحياءان؛ الإثني والديني، وتصارعا. ولأنّ الدولةَ كانت مهمةً للولايات المتحدة في الحرب الباردة بسبب وقوعها بين العمالقة: الصين والهند والاتحاد السوفييتي، فقد اقتضت المحافظة على أمنها تسليمها للعسكر؛ بل والسماح لها (على خلفية الصراع على أفغانستان) بإنتاج قنبلة نووية، صارت أسيرةً لها بدلاً من أن تحميها أو تحوّلها إلى دولةٍ عظمى!
باكستان هذه، والتي عجزت عن كتابة دستور إسلامي لأنّ نخبتها السياسية والعسكرية علمانية، وعجزت عن البقاء موحَّدة رغم أنّ كلَّ سكانها من المسلمين، وغالبيتهم الساحقة من السنة الأحناف، تطورت فيها منذ الخمسينيات حركةٌ سياسية إسلاميةٌ كبرى هي "الجماعة الإسلامية" التي أسَّسها أبو الأعلى المودودي في الهند عام 1941. وهي جماعةُ تشبه من وجوهٍ كثيرةٍ في تأسيسها ومصائرها حركة "الإخوان المسلمين" المصرية. فهي تريد إقامة دولةٍ إسلاميةٍ تطبق الشريعة، لكنها لا تقول بالعنف، وتشارك في الانتخابات، وقد ظلّت ملاحقةً من السلطات، وما حصلت على مقاعد معتبرة في البرلمان الاتحادي وبرلمانات الولايات إلاّ بداية من التسعينيات. لكنها أيضاً -مثل "الإخوان المسلمين"- عانت من انشقاقاتٍ، وحاصرتها الإحيائيات السلفية، وعادتْها أيضاً التيارات التقليدية الحنفية؛ بحيث ما عاد يجمع حركات الإحياء الإسلامي في باكستان حالياً غير العداء لبرويز مشرَّف وحكمه وجنرالاته، والإشادة بابن لادن و"طالبان"، والعداء للولايات المتحدة "حامية مشرَّف وحليفته"!
أمّا قصةُ باكستان مع أفغانستان فهي مشابهةٌ لقصتنا نحن اللبنانيين مع سوريا. فباكستان التي كانت دائماً بمثابة بقر الوحش بين جيرانها من الأفيال، أرادت أو اضطرت للعب دور الأسد في أفغانستان. كانت تتنافس مع الاتحاد السوفييتي على كسْب ولاء الملك الأفغاني. ثم نظَّم الروس انقلاباً في أفغانستان حوَّلوها إلى جمهورية ما لبثت أن دعتهم رسمياً لحمايتها فدخلوا إليها عام 1979؛ فاتخذت الولايات المتحدة من باكستان مقراً لحرب العصابات الجهادية ضدَّ الروس في أفغانستان طوال الثمانينيات. وعندما خرج الروس من أفغانستان أواخر الثمانينيات، وتصارع "المجاهدون" على السلطة، عادتْهم باكستان جميعاً، واخترعت المخابرات الباكستانية حركة "طلبان" من بين اللاجئين الأفغان (البشتون) عندها. وبين عامي 1996 و2001، ما كان هناك منفذٌ لـ"طالبان" إلى العالم الخارجي غير باكستان. وما كان أُسامة بن لادن وحيداً في استقدام المجاهدين المحترفين إلى أفغانستان عبر الحدود؛ بل هناك مليونا لاجئ أفغاني في باكستان تنتشر في صفوفهم المخدّرات والبؤس والحركات المتطرفة- وهناك أيضاً تداخُلٌ قبلي كبير بين البلدين بحيث لا يمكن ضبط الحدود، ولا تمييز الأفغاني من الباكستاني. وهذا كلُّه فضلاً عن أنّ الحركات الدينية في باكستان صارت كلُّها متطرفة، وقد شجعها نجاح "طالبان" على محاولة إقامة دولة دينية في باكستان أيضاً.
وبالإضافة إلى "القاعدة" و"طالبان" والمشكلات الأُخرى القادمة من أفغانستان، فإن لبرويز مشرّف- الذي يحكم البلاد بقوة منذ عام 1999- أعداء كبارا داخل البلاد: الأحزاب الباكستانية التي كانت في السلطة قبله، والمثقفون والعصرانيون ودُعاة الديمقراطية، والمارد الإسلامي المتعدد الرؤوس (لو كان له رأسٌ واحدٌ لاستولى على السلطة منذ زمن!).
والحركاتُ الدينيةُ الأُخرى غير الجماعة الإسلامية، تختلفُ نشأتُها عنها. إذ هي تستندُ إلى المدارس الدينية الموقوفة، والتي يقصدُها ملايين الأولاد الريفيين وأحياء البؤس في المدن. وسرعان ما يصبح شيخ المدرسة زعيماً أو قائداً أو مؤسِّساً لفرقة. والمدارسُ الدينية الكبرى يزيد عددُها على المائة، فضلاً عن عشرات الجامعات الدينية الخاصّة. وكلُّ هذا النظام التعليمي مؤهَّلٌ لإنتاج متشددين. ولدى مئات الآلاف من الباكستانيين أسلحة فردية. والاشتباك مع البوليس أمرٌ معتاد. بيد أنّ إقفال المدرسة والمسجد الأحمر والاعتصام فيهما، يدلاّن على أنّ هناك عناصر متشددة ومنظَّمة أتت من خارج المدرسة، بقصد إزعاج مشرف وجيشه واستنزافهما، بحيث ينتهي نظامُهُ في الشارع أو بانقلابٍ داخل الجيش المتعَب والمستنزَف.
ما هي الأسباب المباشرة للاضطراب إذن، وهل تصلُحُ بالديمقراطية؟ قال لي الصحفي المعروف مختار أحمد: هكذا هو الأمر عندكم أنتم العرب، وعندنا نحن في باكستان؛ العسكريون ورجالات الأمن يقولون: نحن أو الفوضى! ويجيبُهُم رجالاتُ الأحزاب والليبراليون؛ اذهبوا أنتم وسترون كيف تقوم الديمقراطية. بيد أن ّالجميع يعرفون (يقول م. أحمد) أنّ الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني ليست هي جهات المعارضة الرئيسية لنظام مشرَّف؛ بل الحركات الإسلامية بكافة أشكالها. وهذه الحركات لا تقول بالديمقراطية ولا تقبل الاحتكام إلى العوامّ في الانتخابات، من أجل تطبيق الشريعة! وفي النهاية: هل الأصولية قبل أم العسكر؟ وهل الأصوليون أسوأ أم العسكر؟
كلا الأخوين ضَرّابٌ ولكنْ شهابُ الدين أضرب من أخيه