إذا كانت السنوات الأخيرة قد شهدت كشف النقاب عن معلومات تفيد بإقدام الدولة الصهيونية على استخدام أسلحة جديدة على سبيل التجربة ضد المدنيين الفلسطينيين، وهو الأمر الذي يمثل "جريمة ضد الإنسانية" بموجب القانون الدولي، فإن ثمة سجلاً حافلاً من الجرائم المماثلة التي ارتكبتها هذه الدولة، كما سبق أن ارتكبتها الجماعات الاستيطانية المسلحة، التي تواجدت على أرض فلسطين قبل إنشاء الدولة وكانت نواتها. وترجع أولى الوقائع الموثَّقة في هذا الصدد إلى الأسابيع القلائل التي سبقت قيام الدولة الصهيونية في عام 1948، حيث تسارعت محاولات القوات الصهيونية لإلحاق أكبر قدر من الأضرار بالسكان الفلسطينيين، بغرض ترهيبهم وإجبارهم على الرحيل عن ديارهم، ومن ثم لجأت إلى استخدام أساليب الحرب الجرثومية، التي كان ديفيد بن جوريون من أوائل الذين تنبهوا إلى أهميتها وعملوا على امتلاك قدراتها. وجاءت هذه الأساليب استكمالاً للمذابح التي اقترفتها القوات الصهيونية لما نفذته من عمليات تدمير بيوت السكان الفلسطينيين ونهب ممتلكاتهم وإتلاف مزارعهم. وتُعد عملية نشر وباء "التيفود" في عكا نموذجاً لهذا الأسلوب، ففي أعقاب سقوط حيفا في أيدي القوات الصهيونية، في 22 أبريل 1948، نزح آلاف السكان الفلسطينيين من حيفا إلى عكا، التي كانت لا تزال خاضعةً لسيطرة القوات البريطانية. وفي الأيام الأولى من شهر مايو 1948، بدأت القوات الصهيونية في محاصرة المدينة لحمل سكانها على الاستسلام، واستمرت في قصفها لما يقرب من أسبوعين، كما أقدمت على نشر جرثومة "التيفود" في القناة التي تمد المدينة بالمياه، وهي قناة تأتي من القرى الشمالية التي تبعد عن عكا مسافة عشرة كيلومترات تقريباً، وتُعرف أحياناً باسم "قناة الباشا". وقد أدى ذلك إلى انتشار حمى "التيفود" بين سكان المدينة والجنود البريطانيين المتمركزين فيها، وساعد على سرعة انتشار المرض تدهور المرافق الصحية في المدينة بسبب الحصار. وإزاء هذا الوضع، أوفدت "الهيئة الدولية للصليب الأحمر" مندوبين إلى عكا، في 6 مايو 1948، لتفقد أحوال السكان، ومدى انتشار المرض. وأفاد المندوبون في تقريرهم (التقرير رقم G59/1/GC, G3/82) بأن "الوضع خطير"، حيث بلغ عدد المصابين 70 مدنياً فلسطينياً و55 من الجنود البريطانيين، وإن كان المعتقد أن العدد الفعلي أكبر من ذلك، نظراً لإحجام كثير من السكان عن الإبلاغ عن الإصابات. وأعرب التقرير عن التخوف من اتساع نطاق المرض وانتقاله إلى مناطق أخرى نظراً لتزايد حالات نزوح السكان، سواء إلى مدن وقرى أخرى داخل فلسطين، أو إلى لبنان، وما يصاحب ذلك من تزاحم وسوء للأحوال المعيشية والصحية. كما أكد التقرير، استناداً إلى الفحوص التي أجراها مندوبو الصليب الأحمر وكذلك المشاورات مع عدد من الأطباء اللبنانيين والمسؤولين البريطانيين والفلسطينيين في المدينة، أن "الوباء نُقل عن طريق المياه"، ومن ثم تقرر عدم استعمال مياه القناة والاستعانة بالآبار الجوفية لتلبية احتياجات السكان من المياه، فضلاً عن اتخاذ إجراءات أخرى لتطهير المدينة وتجهيز المستشفيات لاستقبال المصابين في محاولة للسيطرة على الوباء. إلا أن هذه المحاولات لم تحقق نجاحاً يُذكر، نظراً لاستمرار القوات الصهيونية في محاصرة المدينة وقصفها، ومن ثم ازداد الوضع سوءاً. ومع سقوط المدينة في نهاية الأمر، وما أعقب ذلك من عمليات سلب ونهب وتدمير وقتل على أيدي القوات الصهيونية، لم تُعرف كثير من التفاصيل المتعلقة بواقعة نشر الوباء، ولم يتسن إجراء تحقيق واف يحدد المسؤولين عن هذه الجريمة، وإن كان من المعروف أن القوات البريطانية التي انسحبت من المدينة قامت بنقل المصابين، أو عدد منهم على الأقل، إلى مصر لتلقي العلاج، وأنه لم تظهر حالات إصابة جديدة بعد التوقف عن استعمال مياه القناة، وهو الأمر الذي يؤكد أنها كانت مصدر المرض، خاصةً وأن الإصابات كانت محصورة في مدينة عكا وحدها. وبعد أيام من استيلاء القوات الصهيونية على عكا، تمكنت القوات المصرية في غزة، التي كانت تخضع آنذاك للإدارة المصرية، من القبض على اثنين من المستوطنين اليهود، يوم 22 مايو 1948، بينما كانا يحاولان تلويث مصادر المياه في غزة لنشر مرض الملاريا بين السكان. وقد اعترف الاثنان لدى التحقيق معهما بأنهما كُلفا بهذه المهمة مع وحدة خاصة تضم 20 شخصاً. وعلى الفور، اتخذت السلطات المصرية الإجراءات الصحية اللازمة لتطهير المياه وتوعية الأهالي، وهو الأمر الذي حال دون وقوع كارثة إنسانية. ورغم سعي القيادات الصهيونية إلى التنصل من المسؤولية عن هذه الأعمال، فمن الواضح أنها كانت جزءاً من مخطط منظم بدأ قبل قيام الدولة الصهيونية ثم اتسع نطاقه على أيدي هذه الدولة التي رعته ووفرت له الإمكانات العلمية والمادية والبشرية. ففي دراسة للعلامة "أفنير كوهين" (مجلة منع انتشار الأسلحة، خريف 2001)، يتضح أن بن جوريون تنبه مبكراً إلى أهمية الحرب الجرثومية في توطيد أركان الكيان الصهيوني، ومن ثم حاول الاستعانة ببعض العلماء الأوروبيين اليهود لإقامة وحدة علمية متخصصة في هذا المجال داخل منظمة "الهاجاناه" (الدفاع)، وهي من أولى المنظمات العسكرية الاستيطانية التي شكلها المستوطنون الصهاينة في فلسطين، حيث تشكلت عام 1920 ولعبت دوراً جوهرياً في إقامة الكيان الصهيوني، وشكلت القوام الأساسي للجيش النظامي إثر إعلان الدولة الصهيونية. وقد عُرفت هذه الوحدة باسم "همد بيت"، وكان يشرف عليها بعض العلماء اليهود الذين قدموا من روسيا وألمانيا، واتخذت مقراً لها في مدينة يافا، وكانت أنشطتها محاطةً بالسرية. وفيما بعد، تحولت الوحدة إلى مركز علمي متخصص يحمل اسم "مركز إسرائيل للبحوث البيولوجية" ولا يزال قائماً إلى اليوم. ولم يعد خافياً مدى الاهتمام الذي توليه الدولة الصهيونية منذ سنوات طويلة لتطوير قدراتها في مجال الأسلحة غير التقليدية، مثل الأسلحة الكيماوية والجرثومية، فلا يكاد يمر يوم إلا وتتكشف تفاصيل جديدة عن المساعي الدؤوبة في هذا الصدد. فعلى سبيل المثال، أفادت معلومات "وكالة الطاقة النووية" بأن الدولة الصهيونية شيدت مصنعاً في جنوب مدينة إيلات لمعالجة واستخلاص المواد الكيماوية من النفايات الكيماوية، وأن من بين إنتاجه قنابل للغازات السامة استخدمتها قوات الاحتلال لقمع انتفاضة الشعب الفلسطيني في عام 1987 (صحيفة القبس، 25 أغسطس 1989). ويورد الباحث أحمد بهاء الدين شعبان في كتابه القيِّم الدور الوظيفي للعلم والتكنولوجيا في تكوين وتطوير الدولة الصهيونية (القاهرة، 2004) معلومات مفصلة وموثَّقة عما حققته الدولة الصهيونية في مجال الأسلحة غير التقليدية والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها حالياً ومستقبلاً، ومن بينها مثلاً: - تطوير استخدام السموم الفطرية والغازات الحربية. - إنتاج جيل جديد من ذخائر غازات الأعصاب. - تطوير المضادات النباتية بالاستعانة ببحوث الهندسة الوراثية. - إدخال الهجمات بالأسلحة الكيماوية في نظام اختبار وتحليل الأهداف المعادية والسيطرة عليها. ومن المفارقات التي تبعث على الأسى والغيظ معاً أن كثيراً من النخب الحاكمة ودوائر صنع القرار وأجهزة الإعلام في البلدان العربية لا تبدي الاهتمام الواجب للتهديد الذي تمثله القدرات العسكرية والعلمية للدولة الصهيونية أو لتطوير القدرات العربية في المقابل حتى تتسنى لها مواجهة ذلك التهديد، بينما تقيم الدنيا ولا تقعدها إزاء قضايا أخرى وهمية أو ثانوية، رغم أن الخطر لا يستثني أحداً من المحيط إلى الخليج. والله أعلم.