لبنان هذه الأيام مسرح الآلام والمعاناة والأحداث الكبرى والصراعات وتصفية الحسابات في خطط مفتوحة على كل الاحتمالات بين دول كبرى عالمية وإقليمية مختلفة. يحرص بعضهم على "النقّ" و"النعيّ" الدائمين. ويحرص بعضهم الآخر على تعميم التشاؤم ورسم أسوأ السيناريوهات للبنانيين خصوصاً في الأشهر المقبلة في مواجهة استحقاق رئاسة الجمهورية. ومعظم الذين يمارسون هذا الشيء، إما أنهم لا يملكون شيئاً يخسرونه، أو أن لديهم شهوات هم مستعدون لتدمير البلد من أجلها. وفي كلتا الحالتين، فهم يدمرون الأمل في نفوس اللبنانيين. هل وصلت الأمور الى هذه الحالة وهذا الحد؟ أصحيح أن كل شيء من مميزات البلد إلى تراجع أو زوال؟ وأبرز المميزات التنوع في لبنان الذي بنيت على أساسه صيغة فريدة في المنطقة تبقى دائماً في حاجة إلى التطوير والحماية للتفاعل مع المتغيرات والتطورات السياسية والاجتماعية والديموغرافية الداخلية، والتطورات المحيطة بنا أيضاً، والمؤثرة على أوطاننا، لكن الأساس يبقى هو هو. لبنان بلد التنوع والخصوصيات والتوازنات، التي لا بد من احترامها والمحافظة عليها والاستفادة منها لتعزيز مقومات وأسس نظامنا السياسي وفي طليعتها الحرية والديمقراطية. في ظل هذا النظام، لعب لبنان دوراً عالمياً في الثقافة والعلم والمعرفة، وكان لفترة طويلة بلد الكِتاب والطباعة والنشر والتأليف والإعلام الحر والمسرح والفن والثقافة والرسم والإبداع والخط والأزياء. واللبنانيون المنتشرون في العالم باتوا أبرز أغنيائه ومبدعيه ومخترعيه ومديري شركاته الكبرى والمؤثرين في دوائر قرار مؤسسات عالمية والمساهمين في بناء اقتصادات دول وإعمارها، وهذا بحد ذاته مدعاة فخر واعتزاز وأمل دائم بالبلد وأهله. لماذا أختار هذا الموضوع اليوم؟ لسببين مهمين. الأول هو إقرار مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة تفويضاً للحكومة بالتصديق على اتفاقية التنوع الثقافي التي أقرتها منظمة اليونسكو منذ سنوات، وكان للبنان دور كبير في التحضير لها والدفاع عنها والعمل على تسويقها وإقناع ممثلي دول مختلفة للقبول بها، في مواجهة حملة أميركية شرسة كانت تعمل على رفضها وحاول القيّمون عليها منع تمريرها. نعم، لبنان كان إحدى الدول التي لعبت دوراً محورياً في التصدي لهذه المحاولة. وأستطيع أن أقول هنا إن دورنا كان نابعاً من قناعتنا بضرورة المحافظة على خصوصيات الشعوب والدول والأمم في ظل عولمة خطيرة أراد الداعون لها السيطرة على العالم ومنابعه المالية والنفطية و"الفكرية" أيضاً، أي مصادرة الإبداع والإنتاج الفكري أينما كان من سينما وتراث وصولاً إلى الإنتاج الزراعي وإلى الاقتصاد والتربية وما شابه، وبالتالي يريدون السيطرة على العالم بتاريخه وتراثه وحاضره ومستقبله ومصادرة طاقات إنسانه وتقييمها في السوق في لعبة البيع والشراء، والقرار يكون في النهاية للأقوى مالياً وعسكرياً وسياسياً... هكذا هو مشروع الهيمنة على العالم، الذي أرادت هذه الإدارة الأميركية خصوصاً تكريسه في سياق شعور وقناعة مراكز القرار في أميركا أن الولايات المتحدة باتت الدولة الوحيدة الجبارة القادرة على التحكم بكل مفاصل القرار في العالم. نعم دور لبنان في إقرار اتفاقية التنوع الثقافي في اليونسكو إلى جانب قادة الفرانكوفونية ورموز عدد من الدول حمى الإنسانية.نعم، حمى الإنسانية. حمى الإنتاج الإنساني. حمى الحرية والتنوع والديمقراطية وكان حاضناً لهويات الشعوب. وفي ذلك تكريس لرسالة هذا الوطن الصغير، والعبرة في أن يحمي اللبنانيون أنفسهم التنوع في وطنهم ويحافظوا على صيغتهم الفريدة ويطلقوا طاقات الانسان فيها، ليحقق المزيد من الانجازات ليس لمصلحة اللبنانيين فحسب، بل لمصلحة الإنسانية جمعاء. هذا هو الدور الكبير لهذا الوطن الصغير، الدور الذي أراد ويريد كثيرون من الخارج القريب والبعيد إسقاطه. لكنه دور يستحق المعاناة والنضال من أجله، لأنه في صلب وجود وأساس وتكوين واستمرارية لبنان ... أما السبب الثاني لتناول هذا الموضوع، هو إعلان المدير العام لليونسكو الأسبوع الفائت "بيروت عاصمة عالمية للكتاب عام 2009"، وهو حدث تستحقه بيروت، وسيستمر من 22 أبريل 2009 إلى22 أبريل 2010. وهو التاريخ الذي يلتقي مع اليوم العالمي للمطالعة، والذي درج لبنان على اعتماد أسبوع للمطالعة في السنوات الأخيرة في الموعد ذاته. إنها رسالة جديدة للبنان بلد الرسالة. إنه تكريم جديد لبيروت عاصمة الحرية والثقافة والديمقراطية والتنوع وحوار الثقافات والحضارات وأم الشرائع وعاصمة الكتاب والنشر والطباعة والكلمة المميزة. وهو أمل جديد للبنان وعاصمته وتعزيز للثقافة بهذا الموقع المميز. وستكون "بيروت عاصمة عالمية للكتاب عام 2009" في الوقت الذي تحتضن فيه بيروت ولبنان عموماً ألعاب الفرانكوفونية بشقيها الثقافي والرياضي، وقد باتت الرياضة اللبنانية تمثل موقفاً مميزاً على المستويين العربي والآسيوي، ولمع رياضيون لبنانيون في مجالات عالمية أيضاً. هذان الأمران، يكرسان موقع لبنان ودوره وخصوصيته على المستوى العالمي، فهل يمكن التفريط بجوهرها في الداخل؟ إن لبنان الصغير هنا كبير بدوره في العالم. وكتاب لبنان معتمد في العالم، والكتاب العالمي سيكون مكرماً في لبنان، فهل يجوز، وهل يحق لأحد منا أن يبتعد عن كتاب بيروت، وكتاب لبنان، كتاب التنوع والتوازن والعقل والعلم والقانون والإعلام والرؤية الصحيحة والممارسة الصادقة ليبقى لبنان موحداً قوياً متيناً معطاء للانسانية كلها ووطناً نعتز بالانتماء إليه؟ لقد ساهمنا في حماية التنوع الثقافي في العالم وجذبنا الكتاب العالمي، الثقافـة العالمية، والإبداع الثقافي والفكري العالمي، إلى عاصمتنا، كما جذبنا الأنظار إلى هذا اللبنان في وقت يريد كثيرون أن يبقى العالم مشدوداً ومنجذباً الى الخلافات والأحداث ويبقى الخبر اللبناني بآلامه متقدماً على غيره من الأخبار. أيها اللبنانيون عودوا الى كتابكم الواحد المكرم في كل مكان والمعتمد كصيغة فريدة والمقدم كنموذج ليبقى كذلك في وطنكم. هذا مصدر أمل كبير. وأستطيع القول: لبنان هذا لن يموت...