تتأهب القوات التركية للقيام بعمليات عسكرية مباشرة في شمال العراق، واحتلال أجزاء منه. وقد أعلن وزير الخارجية العراقي "هوشيار زيباري"، أن هناك 140 ألف جندي تركي يحتشدون على الحدود لاجتياح أجزاء من المناطق الشمالية العراقية. ولا شك أن العسكريين الأتراك كانوا يتأهبون للقيام بمثل هذه الحملة منذ عدة أشهر، وقد قام رئيس الأركان التركي بزيارة لواشنطن منذ حوالي شهر لإقناع الإدارة الأميركية بأن عمليات "حزب العمال" الكردستاني ضد القوات التركية، قد زادت وتيرتها بعد تعزيز موقف السلطة الكردية في المحافظات العراقية الثلاث الشمالية. ويبدو أن الإدارة الأميركية لم تكن مقتنعة بالمبررات التركية، ما دعاها لعدم الاستجابة للمطلب التركي. وكان العسكريون الأتراك قد صرحوا بأن اللجنة الأمنية الثلاثية، المكونة من ضباط أتراك وأميركيين وعراقيين، قد فشلت في وقف هجمات "حزب العمال" الكردستاني ضد أهداف تركية. الأمر الآخر الذي يقض مضجع الأتراك هو أن نمو الشعور القومي الكردي في الدول الأربع التي تضم أقليات كردية كبيرة، قد زاد بشكل هائل، بعد أن نجح الأكراد في إقامة وطن قومي لهم في شمال العراق، وتمكنوا من الهيمنة على منصبي رئيس الجمهورية ووزير الخارجية في النظام السياسي الجديد في بغداد. وقد قامت القوات الأميركية مؤخراً بتعزيز دور "البشمرجة" في شمال العراق، وتسليحها على اعتبار أنها تمثل قوة قادرة على حماية تلك المناطق من العمليات المسلحة التي تقوم بها جماعات المقاومة العراقية ومقاتلي "القاعدة" الذين انتقلت عملياتهم العسكرية إلى المناطق الشمالية، بعد تهديد الأكراد بطرد الأقليات العربية والتركمانية من كركوك وغيرها من المناطق الغنية بالنفط في تلك النواحي. ولاشك أن كركوك نفسها عبارة عن ساعة تدق يومياً باتجاه التصويت حول ما يسمى "تقرير المصير"، والذي ينتظر أن يجرى في ديسمبر القادم، حسب نصوص الدستور العراقي الذي أقر في العام الماضي، وكلما قرب موعد التصويت على مصير المدينة، وزادت عمليات التطهير العرقي فيها، كلما تزايدت العمليات الانتحارية وزادت وتيرة العنف أيضاً. وبالنسبة لتركيا، ليست هذه المرة الأولى التي تقوم باجتياح المناطق الشمالية العراقية. فمنذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي وهي تقوم بمثل هذه الاجتياحات، تحت ستار "المطاردة الساخنة" ضد عناصر مقاتلي "حزب العمال" الكردستاني. وكانت مثل هذه المطاردات تحظى في الماضي بمباركة من حكومة صدام حسين، خاصة حين كان العراق غارقاً في حربه ضد إيران، وكان بحاجة لتخفيف ضغط الأكراد عليه في جبهته الشمالية. ومن ناحية نظرية، يذهب بعض علماء السياسة إلى القول إن النخبة السياسية في بعض البلدان تقوم بعمليات عسكرية ضد دولة ما، حين تشعر تلك النخبة بضغط عليها. وهي بذلك تهرب إلى الأمام عبر مثل هذه الأنشطة العسكرية. ولا تختلف الحالة التركية الحاضرة عن مثل هذا الطرح. فحكومة رجب طيب أردوغان مرت بتجربة سيئة مع العسكر، ومع القوى الكمالية اليمينية التي نجحت في إفشال خطط تنصيب عبد الله جول، كرئيس للجمهورية من قبل أعضاء البرلمان، الذي يسيطر عليه "حزب العدالة والتنمية". الأمر الذي دفع بهذا الحزب إلى طرح موضوع تقديم الانتخابات النيابية، بشكل يعزز من هيمنته على مقاعد البرلمان. كما طرح أيضاً موضوع تعديل الدستور بحيث يتم انتخاب رئيس الجمهورية بشكل مباشر من الشعب، وليس عن طريق البرلمان. مثل هذه التغييرات أزعجت الطبقة العسكرية في تركيا، وهي التي حكمت تركيا عبر عقود طويلة عبر مجلس الأمن القومي. لذلك يرى زعماء "حزب العدالة والتنمية" أن مثل هذه العمليات العسكرية في شمال العراق، ستعيد التأكيد للناخب التركي الذي سيتوجه إلى منابر التصويت بعد شهرين، وستشعره بأن هذا الحزب المحسوب على التيار الديني المنفتح، هو أيضاً حزب قومي يدافع عن لحمة المجتمع التركي ووحدته ضد طموحات الأقلية الكردية. من ناحية استراتيجية، فإن تركيا منزعجة كذلك من تعاظم دور إيران في جنوب العراق، وعبر وكلائها في الحكومة الحالية المهيمنين على مفاصل السلطة في بغداد، ولذلك فمن مصلحة أنقرة أن تشارك في عمليات بسط النفوذ في هذا البلد الذي يقف على شفا حربٍ أهلية، وبدلاً من أن تكون الولايات المتحدة وإيران هما صاحبتا النفوذ المباشر وغير المباشر في العراق، فإن تدخل القوات التركية، أو حتى التهديد بمثل هذا التدخل هو إشارة واضحة لهاتين القوتين بأن تركيا لا يمكنها أن تترك العراق ليصبح نجمة تدور في فلك إيران، خاصة بعد الانسحاب المتوقع لمعظم القوات الأميركية من هذا البلد. ولاشك أن المصالح التركية في العراق مهمة وحيوية، خاصة في موضوع حصول أنقرة على إمدادات كافية من النفط العراقي بأسعار معقولة، بالإضافة إلى العامل الكردي. وربما كانت الحلقة المفقودة حقاً في العراق، هي الحلقة العربية، فالانتماء العربي في هذا البلد يتراجع، والطائفية السياسية والمرجعيات الدينية تضرب في أطنابه. وكلما زاد نفوذ هذه المرجعيات في العراق، وفي جنوبه، كلما تقلص الانتماء العربي وزاد الانتماء الطائفي فيه، وهو الذي يتعزز يوماً بعد يوم بفعل الجمعيات شبه الحكومية الإيرانية التي تصرف على مختلف أوجه الأنشطة الخيرية في البصرة وغيرها، بغرض جذب العراقيين أكثر وأكثر إلى السجادة الإيرانية. وربما لن تتمكن تركيا من اجتياح مناطق في شمال العراق بفعل المعارضة الأميركية، ولكن العسكريين الأتراك يرسلون رسالة استراتيجية واضحة للأكراد ولبقية دول الجوار. وفحوى هذه الرسالة، أنه إذا سقطت الحكومة الحالية وانسحبت القوات الأميركية من العراق، فإن أنقرة تطمع في اقتطاع جزء من هذا البلد المنكوب، والذي قد يصير إلى التفكك، وهي في ذلك، مثلها مثل طهران التي تطمح إلى ضم أجزاء من جنوب العراق إليها.