إذا أمكن منع الأجساد من الحركة بالاعتقال والإقامة الجبرية والترحيل من المطارات والمنع من الدخول... بناءً على القوائم السوداء في الأجهزة الإلكترونية وملفات الأمن، فإنه لا يمكن منع الأفكار من الانتشار. وطالما انتشرت أفكار المعتقلين بل والشهداء، إذ لا حدود أمامها، ولا مانع من انتشارها، فهي كالطاقة في الطبيعة، وكالكهرباء في الأسلاك. ولو أمكن منع الأجساد على الأمد القصير، فإنه لا يمكن منع الأفكار على الأمد الطويل. ومنع الكتب ومصادرتها لا يمنع من انتشار الأفكار. فوسائل نقلها الآن متاحة عبر الشبكة العنكبوتية الدولية (الإنترنت)، وهي متوفرة في كل مكان. فكل ممنوع مرغوب. ولو تم وضع الحواجز على الأرض فلا يمكن وضعها في السماء. ولو أمكن وضع الحدود في الجغرافيا فإنه لا يمكن وضعها في التاريخ. وإن أمكن تقطيع المكان إلى أجزاء، فإنه لا يمكن تقطيع الزمان المتصل. وقد كان نيلسون مانديلا في السجن ربع قرن، وكان "يحكم" جنوب أفريقيا. وكان غاندي في السجون البريطانية، والمقاومة السلمية تنتشر في ربوع الهند. قد يمنع مفكرون من دخول الدول بعد الوصول إلى المطارات بتأشيرات رسمية، فالأمن فوق كل شيء، ولا فرق بين نظام عسكري وما سواه، فالنظم السياسية متفقة فيما بينها على التسلط والقهر. الدفاع عن النظام في كلتا الحالتين، هو الهدف الرئيسي. وأمن النظام في كلتا الحالتين هو العامل الموجه. الأفكار الممنوعة قد تكون في صالح النظام إذا أراد الأمن على الأمد الطويل، عبر محاورة الخصوم وليس على الأمد القصير عن طريق المصادرة والمراقبة والمنع. قد يكون أثرها طيباً وليس سيئاً، لصالح النظام وليس ضده! وأثر الحركات الإسلامية على بعضها البعض شيء مشهود، يدل على وحدة الفكر. وطالما تأثرت هذه الحركات بالأموات، مثل ابن حنبل وابن تيمية وسيد قطب، وبالأحياء؛ متطرفين منهم ومعتدلين، محافظين وتقدميين، تقليديين ومجتهدين. لا يستطيع نظام سياسي معاداة كل أطياف الفكر الإسلامي. فلو كان يظن أن المتطرفين خصومه، فعليه الاعتماد على المعتدلين. وإذا ظن أن التقليديين والمحافظين أعداؤه فليعتمد على المجددين والتقدميين. الحركة الإسلامية ليست نوعاً واحداً ولا اتجاهاً واحداً. وقد أجادت النظم السياسية هذه اللعبة بالاعتماد على اليسار لضرب اليمين مرة، وبالاعتماد على اليمين مرة أخرى لضرب اليسار، ليضعف الجناحان الرئيسيان في الفكر السياسي لصالح القلب. ولا يعادي نظام سياسي "الإسلام الديموقراطي" الذي يؤمن بالتعددية الحزبية وبالانتخابات البرلمانية، إلا إذا كان معادياً للديموقراطية والتعددية السياسية. ولا يعادي نظامٌ "الإسلام الليبرالي" الذي يعترف بحريات التعبير لكل الناس، إلا كان معاديا للحرية والليبرالية، يقوم على القهر ويتسلط على المؤسسات السياسية الدستورية والتعليمية والثقافية والإعلامية. ولا يعادي نظامٌ "الإسلام المستنير" الذي يدعو إلى الحوار العقلاني الهادئ، إلا إذا كان معاديا للعقل وضد الاستنارة. وقد يسمح النظام السياسي للمفكر بالدخول بعد طول انتظار منعاً للإحراج المحلي والإقليمي والدولي، وكدليل على بعض الحريات العامة في النظام وكرم قائده وأريحية كبيره، أو اختباراً للمفكر وحسن سلوكه وطبيعة اتصالاته. فعين الدولة في كل مكان، وأجهزة أمنها وشرطتها السرية تحيط بالأماكن التي يتواجد فيها المفكر لاستيفاء ملفه وكتابة التقارير عنه وعن نشاطه في محيطه بعد أن استعصى شراؤه للعمل مع النظام ضد خصومه السياسيين. وقد يسمح نظام سياسي آخر بدخول الكتب ثم بدخول أصحابها طبقاً للقاعدة الفقهية؛ اختيار أخف الضررين: تفجير العقول أم تفجير المباني، استنارة العقول أم إشعال النار في المؤسسات، حرية الفكر أم الفوضى العارمة، تغيير النظام أم هدم الدولة، الإصلاح التدريجي أم الثورة العارمة؟ وقد يمنع نظام ثالث المفكر من الدخول منذ البداية رافضاًً الرد حتى على طلب تأشيرة الدخول لحضوره ندوة أو لقاء أو مؤتمر علمي عقاباً له على مواقفه. في عام 1948 خلقت بريطانيا ثلاثة مشاكل طبقاً لسياسة "فرق تسد" في فلسطين بتقسيمها، وفي جنوب أفريقيا بتأييد الحكم العنصري للأقلية البيضاء، وفي الهند بتقسيمها إلى دولتي الهند وباكستان وخلق منطقة توتر بينهما في كشمير، وكانت الأغلبية في كشمير إسلامية ومع ذلك ضمتها الهند لثرواتها الطبيعية وموقعها الاستراتيجي. لكن ماذا عن الهند ونظامها الديموقراطي الذي تفخر به ومن مآثر بريطانيا العريقة في الديموقراطية؟ انتخاباتها الحرة مشهود لها، وهي دليل على أن الديموقراطية ليست ميراثاً غربياً فقط، بل هي تجربة آسيوية أيضاً كما أثبتت الهند. لقد كان حق تقرير المصير من المكاسب التي حققتها حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، والهند جزء منه. وأصبح قراراً من قرارات الأمم المتحدة. وتم إعلانه في الجزائر عام 1973 ضمن "الإعلان العالمي لحقوق الشعوب"، مقابل "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان". وماذا عن تاريخ الهند ونضالها، منذ غاندي ونهرو من أجل حق تقرير المصير؟ وماذا عن صداقة غاندي وسعد زغلول، ونهرو وعبد الناصر، وباندونج وبلجراد؟ إن الهند بمعنى ما جزء من العالم الإسلامي، لم تنعم بوحدتها إلا أثناء الحكم الإسلامي. إمبراطوريتها (إمبراطورية المغول) من عمل المسلمين، وأعظم آثارها، مثل "تاج محل"، من فن المسلمين. وكثير من ثقافتها وعلومها وحضارتها، من آثار المسلمين. وموقعها الجغرافي داخل المحيط الإسلامي؛ غرباً في إيران وشرقاً في ماليزيا وإندونيسيا، وشمالاً في أفغانستان وأواسط آسيا، وجنوباً في بحر العرب. وأي سياسة تقوم على الجغرافيا والتاريخ تجعل الهند صديقة للعرب والمسلمين وليست صديقة لإسرائيل. تلك كانت سياستها في خمسينيات القرن الماضي وستينياته أثناء حركات التحرر الوطني. يكفيها ما يحدث في سيريلانكا والصراع الطائفي هناك. وإذا كانت الهند تخشى من السلاح النووي الباكستاني، فالأولى بها أن تتحالف مع دول الجوار ونزع أي فتيل للتوتر. ففي الهند هناك مائة مليون مواطن مسلم. ويوجد ملايين الهنود العاملون في دول الخليج سعياً للرزق وإعالة عوائلهم في الهند. مصالح الهند مع العرب والمسلمين. والسلام مع الجيران أجدى وأنفع من الحرب. ويكفي الهند أن باكستان الشرقية انفصلت عن الغربية عام 1971 في حرب أضعفتهما معاً. وفي الهند أكثر من أربعمائة قومية، وهي مُهددة بالتقسيم للقضاء على وحدتها وقوتها، كما فُعل بيوغسلافيا، وقبل ذلك بالوطن العربي، في الماضي وفي الحاضر (العراق وفلسطين ثم السودان فالمغرب العربي). إن تجمع الصين والهند والعرب واندونيسيا وباكستان، يمثل نصف سكان العالم في عصر التكتلات الكبرى. وإذا انتهى المنع من الدخول في بلدين إسلاميين، فالأولى إلغاء المنع من الدخول في الهند، وإذ انتهى النظام العنصري في جنوب أفريقيا، إلا أنه بقي في فلسطين. العالم كله يعترف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة... فماذا عن باقي أقاليم المسلمين الممزقة؟