بعد أن كانت السمة الأساسية لسيادة الدولة، احتكارها لوسائل الإكراه، وبعد أن عُدّ الجانب العسكري والأمني في صميم المهام التي لا يمكن أن تتخلى عنها الحكومة الوطنية... فإن الدول أو الحكومات لم تعد هي الوحيدة في ساحة الصراع، بل انضم إليها، وفي بعض الأحيان، حل محلها فاعلون آخرون. وقد أسهمت العولمة بتأثيراتها المتعاظمة في توسيع القضايا الأمنية، ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر بتغيرات إضافية، مما كان له انعكاس مباشر على دور الدولة الأمني، وذلك بدخول أطراف جديدة هي الشركات العسكرية والأمنية، في إطار ما يسمى "خصخصة الأمن"! والتعبير الأخير هو عنوان الكتاب الذي نعرضه فيما يلي، ويتناول مؤلفه حسن الحاج علي أحمد، "الدور المتنامي للشركات العسكرية والأمنية الخاصة"، والتي تعمل الآن في دول عديدة من العالم، من بينها أفغانستان والعراق. ففي حالة العراق مثلاً تعد الشركات الأمنية الخاصة المساهم الثاني في قوات التحالف بعد الولايات المتحدة الأميركية نفسها، إذ يتجاوز عدد أفرادها 10 آلاف فرد. كما يقوم بعضها، مثل شركة "داينكورب" وشركة "ميليتاري بروفشنال ريسورسز"، بتدريب قوات الشرطة والجيش العراقية. كما تتولى شركة "جلوبال ريسك إينترناشونال" حراسة المسؤولين الأميركيين في العراق. وتقوم شركة "كستر باتلز" بحراسة مطار بغداد وعشرات من نقاط التفتيش والحواجز، كما تتولى شركة "إيرنير" البريطانية حراسة آبار النفط. يقدم الكتاب صورة عامة ومفصلة في آن معاً حول حجم الدور الذي تلعبه شركات الخدمات الأمنية والعسكرية الخاصة، مشيراً إلى أكثر من 90 شركة أمنية خاصة كبرى على مستوى العالم، تقع مقراتها في الولايات المتحدة وبريطانيا وجنوب أفريقيا، وتعمل في مجالات التدريب العسكري والاستخبارات والإمداد والعمليات الحربية، وتنشط في مناطق النزاع والتوتر في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وكدلالة على التوسع الذي تحققه هذه الشركات، يذكر المؤلف أن بعضها أُدرج في أسواق الأوراق والأسهم المالية، ويتوقع أن يقفز دخلها من سوق الأمن العالمي، من 55.6 مليار دولار عام 1990 إلى 202 مليار دولار عام 2010. إلا أن الخدمات العسكرية الخاصة ليست أمراً جديداً، فتاريخ "العمل العسكري الخاص"، يقدم أمثلة عديدة على استخدام المرتزقة في مناطق مختلفة من العالم، وتعد الشركات الأوروبية التي أنشئت في القرن السابع عشر، كرأس رمح للاستعمار وكانت لها جيوشها المقاتلة، أوضح مثال على ظاهرة خصخصة الأمن. أما في القرن العشرين، فقد برز استخدام المرتزقة، كما حدث في حرب "البوير" بجنوب أفريقيا (1899- 1902)، وفي حرب "بيافرا" في نيجيريا (1967- 1970)، ثم بعد ذلك في أنجولا والكونغو وجزر القمر وسيراليون. فخلال الحرب الأهلية في سيراليون أواسط التسعينيات، كانت شركة "إنترناشونال شارتر" الأميركية، والتي يديرها عسكريون سابقون في القوات الخاصة الأميركية، تتولى إدارة العمليات اللوجستية، وهي إحدى الشركات التي تعاقد معها "البنتاجون" للمشاركة في مناطق العمليات العسكرية البعيدة والخطرة. وقد توثق الارتباط بين الشركات الأمنية الخاصة والحكومة الأميركية عبر ما يعرف بسياسة "الباب الدوار"، حيث يتولى مسؤولون حكوميون كبار سابقون مناصب إدارية رفيعة في الشركات العسكرية، كما يتبوأ قادة الشركات الأمنية مناصب حكومية. أما العوامل وراء ظاهرة خصخصة الأمن، فيلخصها المؤلف في أربعة تطورات متداخلة شهدها العالم: أولها الاتجاه العالمي نحو الخصخصة والذي تدعمه المؤسسات المالية الدولية والدول الغربية وتفرضه آليات العولمة. والثاني هو انتشار السلاح وبخاصة الأسلحة الصغيرة، وما سببه من زيادة للنزعات العسكرية في قطاع أكبر من المجتمع. والثالث هو ضعف الحكومات ومؤسساتها العسكرية والأمنية، وظهور فاعلين جدد كالميليشيات ومجموعات الحماية الذاتية والعصابات الإجرامية المنظمة. أما التطور الرابع والأخير فهو التغير في طبيعة الحرب، أي نمط إدارتها ومتطلباتها البشرية والتقنية. ويتطرق الكتاب كذلك إلى مجالات عمل الشركات الأمنية الخاصة، وهي مجالات برزت وتنوعت في العقود القليلة الماضية، حيث لعبت الشركات دوراً كبيراً في الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية والانقلابات، وقد ظهر أشهر دور للمرتزقة في النزاعات الداخلية في الكونغو كينشاسا (زائير) في بداية الستينيات عندما واجه الرئيس باتريس لومومبا محاولات إقليم "كاتنجا" الانفصالية، والتي وقفت وراءها شركة التعدين البلجيكية "جيكامين". أما أقوى نفوذ للمرتزقة فكان في كل من جزر القمر وسيشل حيث استعان بهم السياسيون للوصول إلى الحكم. وفي الوقت الحالي تعتمد كثير من الوكالات العاملة في مجال العون الإنساني على الشركات الأمنية في تأمين نقل مواد العون، كما تستخدمها الأمم المتحدة أيضاً لتأمين مهامها في عدد من الدول والمناطق. وإزاء هذه الظاهرة، يحذر المؤلف من الآثار المترتبة على خصخصة المجال الأمني، والذي يصبح في هذه الحالة "سلعة متاحة فقط للقادرين عليها من الأغنياء"، بما يحمله ذلك من انعكاسات مباشرة على مجتمعات الدول النامية، وبوصفه مؤشراً على أن أجهزة الدولة بدأت تفقد قدرتها على القيام بواجبها الأساسي وهو توفير الأمن الفردي والجماعي لمواطنيها. ورغم ذلك، يبقى دور الدولة في توفير الأمن وحماية التراب الوطني، دوراً محورياً لا يتزحزح، فهي الطرف الوحيد الذي يملك حق التعاقد مع شركات الأمن الخاصة، لاسيما في قضايا تتصل بالسيادة الوطنية والأمن القومي. محمد ولد المنى الكتاب: خصخصة الأمن المؤلف: حسن الحاج علي أحمد الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2007