كنت قد توقفت في مقالي السابق عند موضوع الترجمة، والذي تضمنته مبادرة مؤسسة محمد بن راشد لإطلاق جهود التنمية العربية الإقليمية برؤية معرفية. وأهمية موضوع الترجمة في استراتيجية المبادرة، ينطلق من كون الترجمة ليست مجرد وسيلة اتصال وتفاهم بين مختلف الشعوب والجماعات التي تتحدث بلغات مختلفة، بل لكونها تمثل جوهر التقدم وروح النهضة والركن الأساسي الذي تنطلق منه حضارة الأمة. ودعوني هنا أعود بكم إلى التاريخ، وذلك حين جعل العرب والمسلمون من حركة الترجمة والنقل أساساً في حياتهم، حيث لعبت الترجمة دوراً كبيراً ومهماً في ازدهار الحضارة العربية الإسلامية منذ بداية العهد الأموي الذي شهد أول نقلة نشطة في مسار الترجمة، حيث اختار الخليفة معاوية بن أبي سفيان مجموعة من المترجمين كان أشهرهم "ابن آثال" الذي ترجم عدة كتب في الطب من اليونانية إلى العربية، ثم أكمل الخلفاء من بعده في العديد من العلوم، أهمهم الخليفة عمر بن عبدالعزيز الذي أمر بترجمة كتب لـ"أهدن بن أعين". لكن الترجمة بمعناها الواسع والمهم، حدثت في العصر العباسي، خاصة بعد أن اتسعت مساحة الدولة الإسلامية وتم الاتصال بثقافات الشعوب المحيطة، حيث انتقلت استراتيجية الترجمة من ترجمة العلوم العملية كالصناعات والطب والفلك، إلى العلوم العقلية كالمنطق والفلسفة والهندسة. وأنشأ الخليفة المنصور ديواناً للترجمة وشجع على نقل العلوم والمعارف، وجاء الخليفة هارون الرشيد وعمل على توسيع عمل الديوان والارتقاء به، ثم جاء المأمون فأنشأ "بيت الحكمة" وجعله بمنزلة المجمع العلمي والمرصد الفلكي والمكتبة العامة، وعيّن عليه أفضل المترجمين، ووصل الأمر في عهده أن كان يدفع مقابل الكتاب المترجم وزنه ذهباً. ثم جاءت مرحلة الأندلس التي وصل فيها علم الترجمة إلى أعلى مستوياته، ولولا الحروب والغزوات والأحداث العديدة التي تعرضت لها الأمة الإسلامية... لأصبحت الأمة الإسلامية اليوم هي التي تقود التقدم العلمي، لكنها توقفت حتى بداية القرن التاسع عشر عندما افتتح محمد علي في مصر "دار الألسن"، وجعل التعليم بأكمله، خاصة في الطب والهندسة والصناعة والفنون والإدارة، باللغة العربية، حيث تسابق الأساتذة إلى ترجمة كتب الطب والنباتات والحيوان والفلك والرياضيات والهندسة. وبعد ستين سنة من هذه التجربة جاء الاستعمار الإنجليزي وأوقف التجربة وحوّل التعليم من اللغة العربية إلى الإنجليزية. إن أهم ما يميز عصر الترجمة ثلاثة أمور: 1- إن الترجمة ذاتها لعبت دوراً رئيسياً في قيام حضارة علمية عربية إسلامية عالمية، أنارت للعالم دروب المعرفة وجعلته ينتقل بفضلها إلى ما هو عليه الآن من معرفة وتقدم علمي. 2- إنها لم تتوقف عند مجرد الترجمة والنقل والاقتباس، بل قامت العقول العربية المسلمة بتشكيل تلك العلوم بصورة علمية وفكرية جديدة، وأضافت إليها الكثير من الإبداعات والابتكارات وتوصلت من خلالها إلى العديد من النظريات العلمية والأفكار التي تختص بمنهج البحث العلمي. وتكفي لإثبات ذلك شهادة أحد الباحثين الأجانب، هو "اي. جي. بولص" الذي قال إن المسلمين أخذوا الكثير من علوم البيزنطيين والهنود والفرس، إلا أنهم حين ترجموا هذه العلوم إلى لغتهم، عدلوا فيها وأضافوا عليها وطبعوها بطابع جديد حتى بدت وكأنها علومهم. 3- استطاعت اللغة العربية من خلال الترجمة، أن تثبت جدارتها وقوتها وعظمتها، كلغة عالمية تستوعب كل الثقافات، وأن ترد على كل من يشكك في قدرتها على استيعاب العلوم والمعارف والثقافات العديدة، وأن تكون وسيلة ناجحة لهذا النقل... وذلك بسبب مرونة مادتها وثراء لفظها ومعانيها وكثرة مترادفاتها وقدرتها على دقة التعبير. إن حركة الترجمة هي أساس إغناء الفكر العربي وتعزيز البحث العلمي وتعريب التعليم وتنمية اللغة العربية ذاتها، وتعريف المواطن العربي بقضايا العصر ومشكلاته... إنها سلاحنا لبناء نهضة جديدة، هي وسيلتنا وغايتنا لتجاوز التخلف، وهي طريقنا الصحيح إلى نهضة علمية حقيقية تخلصنا من التبعية الفكرية واللغوية وتجعلنا قادرين على المشاركة في المسيرة العلمية العالمية الراهنة.