بات لبنان على شفا إحدى أسوأ الحروب الأهلية التي شهدها تاريخه المعاصر منذ ثمانينيات القرن الماضي، مع ما نرى من جهود مضنية يبذلها الجيش اللبناني في محاولة القضاء على جماعة "فتح الإسلام" الإرهابية، والتي تشن عملياتها انطلاقاً من مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة طرابلس ومن مخيم عين الحلوة في جنوبي لبنان. وفي الوقت ذاته، فقد استمرت الأزمة الخانقة بين "حزب الله" وحكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، على خلفية اغتيال عدد من كبار مؤيديه، والذين كان آخرهم، وليد عيدو الذي لقي مصرعه في حادث تفجير سيارة مفخخة، يوم الثالث عشر من يونيو المنصرم. وعلى امتداد الخط الحدودي الفاصل بين لبنان وإسرائيل، ظلت تل أبيب يقظة وفي حالة ترقب دائم فيما إذا كانت في نوايا سوريا وإيران وحليفهما "حزب الله" في جنوبي البلاد، شن حرب جديدة عليها، وذلك في الوقت الذي تنشغل فيه تل أبيب أيما انشغال بالأزمة والمواجهات الداخلية المسلحة الجارية بين الفلسطينيين أنفسهم، مع كل ما تثيره تلك المواجهات، من احتمال إعادة احتلال أراضي قطاع غزة مجدداً من قبل إسرائيل، بدافع وقف الهجمات الصاروخية الفلسطينية على مدنها وقراها الجنوبية. وعلى خلفية هذه التوترات كلها، فمن المقرر أن ينتخب لبنان رئيساً جديداً له، بحلول يوم الخامس عشر من سبتمبر 2007، كموعد أخير، مع العلم أنه التاريخ الذي ستنتهي فيه ولاية الرئيس الحالي إيميل لحود. ووفقاً لنصوص الدستور اللبناني، فقد استقر الأمر على أن ينتخب الرئيس من الطائفة المارونية المسيحية، بينما بدأ السباق الانتخابي لترشيح البديل المحتمل للرئيس الحالي بالفعل. هذا وقد حل الخراب بآمال وتطلعات الجنرال ميشيل عون، لتولي المنصب الرئاسي فيما يبدو، بسبب التزامه صف "حزب الله" وتحالفه معه، في المواجهة الدائرة حالياً بين "حزب الله" ورئيس الوزراء فؤاد السنيورة. ولا يزال ميشيل عون، يأمل في أن يبادر "حزب الله" إلى ترشيحه لتولي المنصب الرئاسي، في حال تمكن الحزب من الإطاحة بحكومة السنيورة الحالية. بيد أن المؤكد الآن، هو أن عون قد اشتطت به تلك الآمال والتطلعات بعيداً، مثلما حدث الشيء نفسه لـ"حزب الله" وحلفائه، على ما يبدو. وكيف لنوايا الإطاحة بحكومة السنيورة هذه أن تتحقق، وهي التي تحظى بدعم كل من الولايات المتحدة الأميركية، والأمم المتحدة، فضلاً عن مساندتها من قِبلِ كافة الحكومات العربية السنية في المنطقة، مخافة أن يقفز إلى دفة الحكم والقيادة، تنظيم حزبي راديكالي على شاكلة "حزب الله" وما شابهه، أو أن تؤول رئاسة لبنان إلى قائد سياسي من طراز ميشيل عون، بدعم من قوى سياسية راديكالية موالية له. كما يثير القلق إزاء مصير التوتر اللبناني الراهن، أن يؤول البديل للحكومة الحالية، إلى تمزق لبنان ومروره بمأساة طائفية داخلية، لكل طرف من أطرافها، تحالفاته وسنده من القوى الخارجية. لكن وعلى رغم قتامة المشهد السياسي الطاغي الآن، إلا أن عاملين إيجابيين، يحملان المرء حملاً على التفاؤل بانفراج الأزمة. أولهما أن من الخطأ القاتل الاعتقاد باصطفاف جميع المسلمين الشيعة اللبنانيين خلف "حزب الله". فهناك الكثير من المسلمين الشيعة المتعلمين والمستنيرين من أبناء الطبقة الوسطى، بمن فيهم أصحاب الاستثمارات الكبيرة، يبدون أسفاً بالغاً على شطط البرنامج السياسي للحزب وسلوك زعيمه حسن نصر الله وحاشيته من المتشددين في قيادة الحزب وصفوفه. ويتفق هؤلاء الشيعة المعتدلون، مع كثير من المواطنين اللبنانيين في أن العمليات غير المبررة التي شنها حسن نصر على إسرائيل، هي التي أدت إلى اندلاع حرب صيف عام 2006، والتي ألحقت دماراً فادحاً بحياة المجتمع الشيعي اللبناني واستثماراته في جنوبي البلاد. أما العامل الإيجابي الثاني الذي يحمل على التفاؤل، فيتلخص في أن هذه هي المرة الأولى منذ عام 1982، والتي تنظر فيها الغالبية اللبنانية إلى الجيش الوطني لبلادهم، باعتباره رمزاً وتجسيداً حياً لوطنيتهم، إثر المواجهات التي دارت بين قواته ومقاتلي مجموعة "فتح الإسلام" بمنطقة نهر البارد. وبالنتيجة، فقد تحول الجيش اللبناني إلى مؤسسة يستطيع اللبنانيون العازمون على حل الأزمة الراهنة التي تمر بها بلادهم، التعويل على دورها الوطني، والالتفاف حولها. والملاحظ أن غالبية الجنود المنتمين للقوات النظامية، ممن لقوا مصرعهم في المواجهات المسلحة الأخيرة التي دارت مع مقاتلي "فتح الإسلام"، هم من المسلمين السنة والشيعة، إلى جانب عدد ضئيل من الضباط المسيحيين. وقد أثارت التضحيات الوطنية الغالية التي بذلها هؤلاء الجنود والضباط بأرواحهم، مشاعر الفخر الوطني بمؤسستهم العسكرية مجدداً. وعلى رغم الإنهاك العام البادي على الجيش اللبناني، وعلى رغم تدني مستوى تدريبه وتزويده بالعتاد الحربي، إلا أن له من القدرة ما يكفي لرص الصفوف الوطنية حوله، خاصة صفوف أولئك الطامحين إلى رؤية لبنان وهو ينهض من كبوته الحالية؛ دولة تعددية عصرية مزدهرة. وإلى هذين العاملين السابقين، تضاف حقيقة سيطرة الجيش حالياً على جنوب لبنان كله – وليس حزب الله- كعامل تطور إيجابي ثالث، يدعو هو الآخر للتفاؤل. والشاهد أن لبنان يحقق ازدهاراً ملحوظاً في قطاعي السياحة والاستثمار، لاسيما في المناطق المسيحية الواقعة شمالي العاصمة بيروت. بيد أن مراوحة الأزمة السياسية الحالية مكانها، إلى جانب التأثير السلبي الذي تمارسه كل من سوريا وإيران عبر حليفهما الداخلي، "حزب الله"، لا يزالان يهددان الوضع الحالي المحتقن بالانفجار في أية لحظة، بكل ما يتركه انفجار كهذا من تداعيات كارثية خطيرة على لبنان، بل وعلى المنطقة بأسرها. وبدافع الخوف من انفجار الوضع اللبناني، فقد سارع عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، متوجهاً إلى جدة ثم منها إلى دمشق، في مسعى منه لاستقطاب وحشد تدخل عربي جديد، بغية وضع حد للأزمة السياسية التي لا تزال تمسك بخناق لبنان. لكن فيما لو أخفقت هذه الجهود، فإنه ليس مستبعداً أن تتحول المأساة اللبنانية الحالية، إلى أزمة شرق أوسطية جديدة، ما يعني توجيه صفعة إضافية مؤلمة، لآمال بوش وأحلامه بـ"شرق أوسط" جديد.