أعلن الرئيس بوش في شهر يناير الماضي، زيادةً في عدد القوات الأميركية في العراق، فاقت العشرين ألف جندي، ليبلغ عددهم بعد الزيادة نحواً من 160 ألفاً. وقال بوش إن تلك الزيادة ستسهم في تحسين الأوضاع المضطربة في العراق، فضلاً عن إسهامها في تعزيز الأمن والاستقرار وفتح الطريق أمام التقدم الإيجابي هناك. كما جاءت هذه الاستراتيجية مصحوبة بتغيرات جديدة في التكتيكات وأساليب العمل. من ذلك مثلاً تركيز الجهود على العاصمة بغداد تحديداً، بحكم أهميتها السياسية وبحكم تفشي العنف والتوترات فيها. كما جاءت الاستراتيجية حاملة معها بعض المفاهيم الجديدة مثل "نظّف وابسط سيطرتك ثم ابن". وقد أثبت هذا التكتيك العسكري الجديد فعاليته في منطقة تمكنت القوات الأميركية من تنظيفها تماماً من المتمردين ثم بسطت سيطرتها عليها، لتساعد بعد ذلك المواطنين على إعادة إعمار البنية التحتية لأمن المنطقة واقتصادها. غير أن الكثير من الأميركيين انتقدوا قرار بوش الخاص بزيادة عدد القوات، قائلين إن الوجود العسكري الأميركي بحد ذاته –حتى قبل الزيادة- أضحى جزءاً رئيسياً من المشكلة بدلاً من أن يكون حلاً لها. ولذلك فإن من الواجب البدء بخفض عدد الجنود وسحبهم من العراق، وليس زيادة عددهم. ومهما يكن فقد تم تنفيذ الزيادة التي قررها الرئيس بوش ميدانياً، بينما بدأ تقييم مدى التقدم الميداني الذي تسهم به هذه التعزيزات العسكرية سلفاً. والملاحظ أن الجزء الغالب من هذا التقييم، خاصة من قبل المرشحين الرئاسيين الحاليين، تحركه دوافع سياسية. غير أنه لا تزال هناك آراء لقلة من الخبراء المحايدين، يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها في إطار التقييم المذكور. ومن هؤلاء مثلاً المحلل العسكري المستقل والمعروف بعمق خبرته ومعرفته بالمجال العسكري، "أنتوني كوردسمان". فقد أعد هذا الخبير للتو دراسة حول ما توصل إليه بشأن الوضع الحالي في العراق، ورفع دراسته تلك إلى الكونجرس الذي طالما دعاه أكثر من مرة للإدلاء بإفادته على اعتباره خبيراً عسكرياً مرموقاً، وقد رفع تقريراً في الآونة الأخيرة إلى الكونجرس حول مسار الأداء الميداني للزيادة التي أقرها بوش في مطلع العام الجاري لعدد قواته في العراق. هذا ويعرف عن "كوردسمان"، كونه مؤلفاً لعدد من الكتب والدراسات عن الحروب والنزاعات المسلحة، وغيرها من الشؤون العسكرية المرتبطة بمنطقة الشرق الأوسط وسواها. وأول ما يستوقف المرء في التقرير الذي رفعه كوردسمان إلى الكونجرس، خلوه من أي مؤشرات مشجعة، فيما يتعلق بتقييم الوضع الميداني الحالي في العراق. ذلك أنه أعد قائمة بستة عناصر رأى ضرورة إحراز تقدم ملحوظ فيها، قبل أن نحكم على أداء أميركا بأي قدر من النجاح في مساعيها المبذولة في العراق. والمؤسف أنه لم ير أي تقدم يذكر، في أي من العناصر الستة التي تضمنتها قائمته. أولى هذه العناصر، أن يبدأ الجيش العراقي، بفرض قدر معقول من السيطرة على العمليات الأمنية الموجهة ضد المتمردين والمتطرفين، شريطة ألا تعتمد هذه السيطرة على دعم كبير مقدم لها من قبل الجنود الأميركيين. ثانياً، ينطبق الشرط نفسه على الدور الذي يجب أن تؤديه قوات الشرطة والأمن العراقية في بسط الأمن والنظام، دون مشاركة أو دعم رئيسيين من قبل الجنود الأميركيين في تلك المهام. ثالثاً ينبغي على الحكومة العراقية أن تعقب العمليات الأمنية تلك، بأن يكون لها حضور فاعل في قيادة التحسن المستمر في المستوى المعيشي للسكان والخدمات العامة المقدمة للمواطنين. رابعاً، لا بد من توفر قدر معقول وفاعل من الحكم المحلي، شريطة التنسيق بينه والحكومة المركزية. خامساً، يتعين على الحكومة العراقية الحد من معدلات البطالة المرتفعة، خاصة بين الشباب العراقيين، مع تقديم المساعدات الاقتصادية الملموسة لمواطني المناطق التي جرى تأمينها ضد أنشطة المتمردين. سادساً وأخيراً، لا بد من وضع حد لعمليات التطهير العرقي والنزوح الإجباري للمواطنين من ديارهم وبيوتهم، خاصة أن ما يقارب مليوني عراقي قد أرغموا على النزوح سلفاً، بينما يتوقع أن يلحق بهم مليونا لاجئ عراقي آخرون. وحسب ملاحظات كوردسمان، فإن التقدم الذي أحرز في أي من هذه الجبهات الست، محدود إلى حد تصعب ملاحظته. وتضمن تقرير كوردسمان المذكور، إشارة إلى تمكن القوات الأميركية والعراقية من تنظيف كثير من مناطق التمرد، إلا أن تلك القوات لم ترابط في المناطق التي جرى تنظيفها ولم تعمل على إعادة بنائها وتعميرها، وإنما تركتها وزحفت إلى مناطق أخرى معروفة بقوة شكيمة المتمردين فيها. والذي يحدث، هو أنه ما أن تبرح القوات المذكورة المناطق التي جرى تنظيفها، حتى يعود المتمردون إليها تارة أخرى ليسيطروا عليها مجدداً. وبذلك فقد فشل التكتيك الذي تم تطبيقه برمته. بل يلاحظ أيضاً أنه ما أن تتحرك قوة عسكرية إلى منطقة من المناطق، حتى يسارع المتمردون إلى إخلائها والفرار منها إلى منطقة أكثر أمناً، بدلاً من دخولهم مغامرة القتال ضد قوة عسكرية ضاربة. ورغم إلقاء القبض على بعض المتمردين هنا وهناك، فإن غالبية المعتقلين من فئة المقاتلين العاديين من ذوي المهارات والقدرات المحدودة. وفي المقابل فقد اختفت جميع العناصر القيادية وخبراء التمرد العارفين بتكتيكات وأساليب التخطيط للعمليات المناوئة لنا. وفي حين نعت بعض كبار المسؤولين الأميركيين هذه التكتيكات التي يتبناها المتمردون بالجبن، إلا أنها في الواقع أساليب في غاية الذكاء لكونها تستهدف استنزاف الطاقات القتالية لأعدائهم، مقابل المحافظة على القدرات القتالية لعناصر التمرد. وفوق ذلك كله، فإن كافة العمليات الناجحة المضادة للتمرد تقريباً، تمت بمشاركة كبيرة من قبل الجنود الأميركيين، ليس في جانب الدعم العسكري وحده، وإنما بتغطية جوية وعمليات إنقاذ أيضاً. ورغم أن السياسة التي تبناها الرئيس بوش في الأصل هي المساعدة في تدريب العراقيين حتى يتمكنوا من إمساك زمام أمن بلادهم وتحقيق استقرارها بأنفسهم، فإنه لا يكاد يوجد أي نشاط مستقل للعراقيين، في الجانبين العسكري والأمني، حتى هذه اللحظة. وبالنظر إلى مجريات الواقع الميداني العراقي، فإنه لا بد لنا من أن نقر بأهمية وحساسية عامل الزمن في مساعي إنجاح هذه الجهود المبذولة من جانبنا. بل علينا أن نأخذ بصفة خاصة، بالمزاج العام السائد في الشارع الأميركي إزاء هذه الحرب. فليس من قبيل المغالاة أو التضخيم القول إن غالبية الشعب الأميركي ترى ضرورة بدء انسحابنا من العراق. والسبب وراء تنامي هذا الشعور، هو تزايد عدد القتلى والمصابين من أفراد القوات الأميركية، في مقابل العجز البادي من قبل القيادة السياسية العراقية عن الوفاء بالوعود التي قطعتها على نفسها، مع ملاحظة تنامي، وليس انحسار، معدلات العنف الدموي اليومي.