لماذا خُلِق أنف الإنسان؟ لكي يحمل النظّارات. ولماذا خلقت أرجله؟ لكي تلبس الأحذية. هذا المنطق السًّاخر جاء على لسان حكيم رواية "كنديدا" التي كتبها فيلسوف فرنسا فولتير في أواسط القرن الثامن عشر. ولو عاش فولتير إلى أيامنا الحالية، لكتب رواية مماثلة عن كوميديا "فتح -حماس" أو "غزًّة -رام الله". إن حكيم رام الله، الذي يعتقد أنه حكيم عصر الأنوار والذي يفهم الحياة على أنها اختيار للأفضل بين أحسن عوالم الممكنات، لا يفهم منطق حكيم غزًّة، الموصوف بحكيم عصر الظلام، والذي يفهم الحياة على أنها خلق الممكنات وليس الاختيار بين ما هو متوفر منها. إنه لا يستوعب منطق حكيم غزًّة عندما يصرُّ على أن الأنف لم يخلق لحمل النظارات وإنمُّا ليشمًّ الروائح وخصوصاً الكريهة منها، وليرمز للأنفة والكبرياء ورفض الانحناء. وكبطل فولتير، يبقى بطل رام الله مردداً عبر السنين والعقود بأن لدينا الكثير من النظارات التي يجب أن يحملها الأنف العربي والأنف الفلسطيني، حتى ولو كانت نظارات شائهة، وكان قد تم تصميمها في مكان آخر لكي يحملها منقار بومة وليس أنف إنسان! وكذا الأمر بالنسبة للأرجل. فحكيم غزًّة يعتقد، عن خطأ وتعسٌّف، بأنها خلقت للمشي بصلابة بحيث تهزٌّ الأرض التي تمشي عليها، بينما يبقى حكيم رام الله مخلصاً لفلسفة الحكيم "بانجلوس" في رواية "كنديدا"، والذي يردّد بأن الأرجل خلقت لتلبس النًّعال حتى ولو كانت نعالاً ممزًّقة ومغموسة في الوحل. لقد حل فولتير نهاية بطله بقبوله فواجع وآلام الحياة كما تأتي. فبعد مغامرات ذاق البطل أثناءها الأمّرين، وتحمًّل الصّعاب والكوارث، انتهى إلى إقناع نفسه بالتخلي عن بذل الجهد وتحمل التعب، كي يتفرغ أخيراً لفلاحة حديقته. بالنسبة لروايتنا العربية ستكون حديقة عربية صغيرة في حي قديم من أحياء رام الله، أو حتى غزًّة، حيث ستنمو باسقة في أرجائها أشجار الزيتون والبرتقال العاقرة، والتي لن تحمل زيتوناً يسد خلة جائع، ولا برتقالاً يرطب شفةً عطشى. وعند ذاك سينحني الأنف وتضعف الأرجل وتصبح الكوميديا الفرنسية تراجيديا إغريقية. المفجع المضحك أن هذه الكوميديا التي تقول ساخرة بأن نتائج الأحداث والكوارث هي ما كان سبباً في حدوثها، فتجعل الدنيا وقوانين الطبيعة مقلوبة على رأسها... هذه الكوميديا تمثّل يومياً على مسرح الوطن العربي الكبير. فأسباب مأساة العراق هي الاقتتال بين سنّته وشيعته، وتمكّن الفاسدين من حكمه، وشحّّّّ كهربائه ومائه، وإصرار مقاومته الوطنية على حمل السلاح... وليس احتلال الغزاة لأرضه وتآمر مجلس الأمن الدولي على شعبه! وفي لبنان، فإن المقاومة ضد البربرية الصهيونية، وانحياز شعبه إلى خيار التضحية بدل الاستسلام للصًّلف الأميركي... هي السبب وراء مأساته الحالية، وليس التدخلات الأجنبية لإضعافه وتركيعه في طين الاستسلام. عمى العين الفولتيري المضحك، لم يقتصر على أرض العرب، بل تعدّاه إلى مسرح الأمم المتحدة. فمنذ يومين أعلن أمينها العام أن "الاستقرار" العراقي الحالي يعود فضل تحققه إلى الاحتلال الأميركي! وهكذا كتب الحكيم الكوري كوميديا جديدة مضاعفة. فالمأساة العراقية أصبحت استقراراً، والاحتلال الأميركي أوجد فوضى مستقرة فاستحق المدح والثناء! في هذا المشهد الذي صاغته عبقرية السياسي الكوري المحنك، اختلطت الصور والمفاهيم والكلمات، فأين عبقرية فولتير في حياكة السخرية والعبث في هذا العالم من عبقرية الأمين العام للأمم المتحدة! منذ قرون، التاعت نفس شاعرنا العظيم المتنبي، فوصف الضحك على المبكيات بأنـه ضحك كالبكاء. لا أدري إن كان العبقريان فولتير والمتنبي، سيتقابلان في العالم الآخر ليضحكا معاً على بكائيات غزّة ورام الله وبغداد وبيروت وعواصم العرب والغرب وحاضرة الأمم المتحدة!