حصانٌ مطعونٌ بالحربة يصهلُ متهاوياً، وأمٌّ تولول محتضنة رضيعها الميت، وامرأة تستغيث من النيران المندلعة في ملابسها، وجندي مذبوح تتدحرج أطرافه على الأرض، وكما في الكوابيس تمتدُّ ذراع بفانوس تحت مصباح كهربائي... هذه مشاهد من لوحة "غورنيكا" التي صوّر فيها الفنان بابلو بيكاسو مأساة تدمير قرية إسبانية غداة الحرب العالمية الثانية. اللوحة منسوجة على سجادة معّلقة في الممر المؤدي إلى مجلس الأمن في الطابق الثاني من مقر الأمم المتحدة في نيويورك. وعند إدخال كلمتي "غورنيكا" و"الأمم المتحدة" بالإنجليزية في محرك البحث "غوغل" في شبكة الإنترنت نعثر على اسم العراق. لوحة "غورنيكا" التي تعتبر رمزاً لبشاعة الحروب، ارتبطت بالعراق عند مناقشة مجلس الأمن في فبراير 2003 موضوع امتلاك بغداد لأسلحة الدمار الشامل. وتأكد للجميع أن الحرب وشيكة عندما لوّح وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول بقارورة صغيرة، مدّعياً أنها تحتوي على سلاح عراقي جرثومي كاف لإبادة الملايين. سارع آنذاك موظفو الأمم المتحدة لتغطية اللوحة بستارة سميكة خشية أصداء قد تثيرها لدى الرأي العام العالمي المناهض للحرب على العراق. وادّعى المسؤول الإعلامي للمنظمة الدولية أن الإجراء مؤقت، وأنهم لم يفعلوا ذلك "إلاّ بسبب وجود كاميرات تلفزيون"! لم يخطر ببال موظفي الأمم المتحدة أن وساوسهم ستربط لوحة "غورنيكا" بالعراق. وستتحقق النبوءة التي توقعتها في تلك الليلة المشؤومة صحيفة "تورينتو ستار" الكندية: "مكتوبٌ على الذين يتجاهلون فظائع التاريخ، أو يغطوها أن يكرروها... وسيدفع العراقيون الأبرياء، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ثمناً فادحاً، ولن يكون من الممكن تغطية ذلك بستارة". والفن، حسب الفنان الإسباني بول كِلِي، "لا يعيد إنتاج المرئيات، بل يجعلها مرئية". وإذا كانت لوحة "غورنيكا" تجعلنا نرى جريمة قتل 1600 شخص من سكان القرية الإسبانية، فمن يجعل العالم يرى جريمة قتل مليون عراقي؟ رقم "المليون" هنا كالغابة، تعمي العين عن رؤية الأشجار. وكيف يمكن التعرف على وجوه العراقيين، وهم يصبحون بلمح البصر أرقاماً في موقع الإنترنت الخاص بإحصاء ضحايا الحرب؟ هذا اليأس من عمى العالم، جعل الفنان نوري الراوي يعلن لمراسل صحيفة "نيويورك تايمز" في بغداد: "أنا على استعداد الآن لأجمع ملف تاريخي الفني بكامله: مقالاتي وكتبي وعروضي وشرائطي وصوري الفوتوغرافية ولوحاتي... أكوّمها كلها وأحرقها". والفنان الراوي (82 عاماً) هو أحد آخر الأحياء من جيل رواد الفن العراقي الحديث. ولا شيء يماثل في الحساسية رسومه الجميلة، سوى وسامته ورقة شمائله. كادَ أن يُغمى عليه مرّة عندما قيل له إن وزير الثقافة جاء لزيارة مرسمه في "أكاديمية الفنون الجميلة" ببغداد! فإذا كان نوري الراوي يريد أن يحرق كل أعماله، فماذا يفعل فنانو العراق الشباب؟ ماذا يفعل غسان غايب، وهناء مال الله، وكريم رسن، ومحمد الشمري، ونزار يحيى، وساطع هاشم..؟ معرض "دفاتر الفنانين العراقيين المعاصرين" يتجول برسومهم منذ سنتين في المدن الأميركية. آخر محطة له كانت مدينة نيويورك في الشهر الماضي. اختار اسم "الدفاتر" لهذه الأعمال الفنان ضياء العزاوي، المشهور على الصعيد العالمي. وذكر العزاوي، الذي يمثل الجيل التالي بعد جيل الرواد أن "الدفاتر" تعيد إحياء فن المخطوطات العربي العريق، الذي اندثر منذ ظهور الطباعة. ويتابع العزاوي الفنانين الشباب منذ سنوات عدة، واقتنى مجموعات من أعمالهم، تضم رسوماً وتخطيطات، ولافتات مخطوطة، وقطعاً من جدران بغداد. "الفن الحقيقي، كما يقول الأديب الفرنسي "مارسيل بروست"، لا ينبع من الفرح والأحاديث العابرة، بل من قلب العتمة والصمت". هذا منبع "الدفاتر" التي تحمل عناوين "حرائق بغداد"، و"يوميات عراقية تحت الحصار"، و"حضارة اليورانيوم"، و"يوم العار: تدمير المتحف العراقي"، و"كتاب بغداد"، و"حائط بغداد بعد الاحتلال"... ولم يعد سراً إقبال متاحف عالمية عدة، بينها المتحف البريطاني على اقتناء أعمال الفنانين العراقيين. فالمتاحف لم تعد مجرد مؤسسات لحفظ وعرض كنوز الفن، بل مراكز حيوية للتأثير الإيديولوجي، والضغط السياسي، والعلاقات الدولية. والفن الجيد يروي القصص. كذلك "دفاتر" الفنانين العراقيين التي تبدو كمسوّدات بيكاسو المشهورة (حلم وكذب فرانكو 1937). صوّرت المسوّدات التي مهدت للوحة "غورنيكا" مشاهد فظيعة لأمهات باكيات، وأطفال قتلى، وحرائق، ومناظر طبيعية مدّمرة، وصلوات، وشتائم مقذعة، وخيول تموت، وديدان لها أفواه بشرية مغطاة بالشعر، ومسوخ تشرب الدماء. وتختفي في لوحة "غورنيكا" تفاصيل تزخر بها أعمال الفن الواقعي الكلاسيكي، كلوحة "فظائع الحرب" المشهورة للفنان الإسباني "غويا". ففي "غورنيكا" لا يبقى من مشهد الجرح النازف سوى الشعور المروّع به، ولا نرى من طعنة الحربة في الجسد سوى صرخة الاحتجاج الضارية ضدها. هذه اللوحة، كما كان يقول بيكاسو "لم تُصنع لتزيين الشقق، بل هي سلاح هجومي ودفاعي ضد العدو". وتُعتبر أعمال ضياء العزاوي بالنسبة للجيل الجديد من الفنانين العراقيين، علامات على الطريق المؤدي إلى بيكاسو، والفن العالمي المعاصر. "إنه بيكاسو العالم العربي". ذكر ذلك الناقد الفرنسي "ألن جيفري" في كتاب عن العزاوي أصدره بالفرنسية "معهد العالم العربي" في باريس. وقارن "جيفري" أسلوب بيكاسو في التوليف الديناميكي للفنون الأفريقية، والآيبرية، والغربية الحديثة، وبين أسلوب العزاوي في مزج فنون الفولكلور العراقية، والتكوينات المعمارية السومرية، والخطوط الإسلامية، والفنون الغربية المعاصرة. وتبدو مجموعة رسوم العزاوي عن مجزرة مخيم "صبرا وشاتيلا" للاجئين الفلسطينيين، وكأنها "الطبعة العربية" من "غورنيكا". وتشكل رسوم "صبرا وشاتيلا" جدارية يبلغ ارتفاعها 3 أمتار وطولها 7 أمتار، وهي كما يقول العزاوي "ليست تعزية، أو توثيقاً لليل المجزرة البهيم، بل هي عمل يحاول أن يقيم حفلاً تذكارياً دائماً ضد الاضطهاد إلى أن يحرقه بلهيب مُستعر". هذا اللهيب المستعر يشتعل في لوحات يعدّها حالياً ضياء العزاوي والفنانون الشباب عن شهداء العلم والطب والهندسة في العراق. تستضيفُ جامعات عالمية وعربية عدة، اللوحات في العام الدراسي المقبل، وتُطبع منها آلاف البطاقات البريدية التي ستجعل حزن يتامى وأرامل علماء العراق، كالديناميت، يعرفه العالم عندما يمس أسلاكه. و"الفن طويل والحياة قصيرة"، كما يقول المثل الإنجليزي. كم جحافل من الغزاة اندثرت وبقيت خالدة مخطوطة "مقامات الحريري" المشهورة التي رسمها الفنان البغدادي الواسطي؟ هذه المخطوطة، المحفوظة حالياً في متحف باريس رسمها الواسطي عام 1237 ميلادية، أي قبل عشرين سنة من اجتياح المغول لبغداد في عام 1258. ملايين النسخ طُبعت منها. وأصبح رسم "مكتبة حلوان العامة" قرب مدينة بغداد، بكتبها المصفوفة على الرفوف، وقرائها بعمائمهم وبزاتهم الملونة، رمزاً من رموز ثقافة الكتاب العالمية. ولوحة الواسطي لموكب حجاج بيت الله الحرام على الجمال، مهرجان حي ينبض بالبهجة والألوان والرايات المرفرفة، وتكاد تتعرف على وجوه ركاب السفينة المبحرة من عُمان إلى ميناء البصرة، وتسمع في لوحة أخرى لغط سكان بغداد المطلين من شرفات المنازل، مختلطاً بصياح الديكة فوق السطوح.