من الأخبار السارة القليلة في منطقتنا، والتي تُنتج الحزن بكميات هائلة، خبر تخلي تنظيم "الجهاد" في مصر عن العنف واقتراب المجموعات الرئيسية في هذا التنظيم من إكمال المراجعات الفكرية التي تقوم بها. ويسير "الجهاد" على هذا النحو في الاتجاه الذي سلكته "الجماعة الإسلامية" منذ أن أعلنت مبادرتها الأولى لوقف العنف عام 1997. وبذلك تكون الجماعتان اللتان ملأتا أرض مصر عنفاً في أواخر ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، قد نبذتا الإرهاب سبيلاً لتحقيق أهدافهما، الأمر الذي يثير سؤالاً كبيراً عن جدية هذا التحول، وسؤالا أكبر عن الدور الذي يمكن أن يلعبه المراجعون في "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد" في حال التزموا نهائياً بالعمل السلمي. فهناك، بداية، شكوك قوية مازالت قائمة في أوساط المعنيين بحركات الإسلام السياسي الراديكالي، الأمر الذي يدفع بعضهم إلى الاعتقاد بأن التخلي عن العنف مؤقت وقد لا يستمر طويلاً. ويمكن التمييز بين اتجاهين في هذا الإطار، يرى أحدهما أن المراجعات التي حدثت، وتحدث، ليست أكثر من عمل تكتيكي للتحرر من سجن كان يمكن أن يطول إلى ما لا نهاية من دون اللجوء إلى هذا الأسلوب. فالمراجعات، وفق هذه القراءة، لا تخلو من مراوغة وغموض، بينما تخلو من الحسم القاطع، وبالتالي لا تُفهم باعتبارها تخلياً عن العنف بشكل نهائي وإنما هي ترشيد له مادام "الجهاد العنيف" يبقى فريضة. ولا يعتد أصحاب القراءة التي تقود إلى هذا السيناريو، بالجهد الذي بذله المراجعون لإثبات الطابع الاستراتيجي لمراجعاتهم في أكثر من موضع في الكتب التي أصدروها. وهناك، في هذا الإطار أيضاً، اتجاه ثان يرى أن قادة "الجماعة الإسلامية" و"الجهاد"، يمكن أن يكونوا جادين الآن في تخليهم عن العنف بعد هزيمة مشروعهم للتغيير بالقوة، ولكنهم سيعودون إلى هذا العنف حال تغير الظروف الراهنة. فهذا الاتجاه ينظر إلى المراجعات باعتبارها استجابة لمتغيرات معينة على نحو يمكن أن يدفع إلى مراجعة هذه المراجعات (أي العودة عنها) في ظل متغيرات أخرى مختلفة أو مناقضة. ورغم أن أحداً لا يستطيع الجزم بشيء في مسألة كهذه، فإن الاتجاهين اللذين يتوقعان العودة إلى العنف يؤسسان هذا التوقع على مجادلة شديدة العمومية، وهي أن الانسداد السياسي العام وتضييق الخناق على العمل السياسي يؤديان إلى التطرف، والذي قد يقود بدوره إلى العنف. غير أنه قد لا يستقيم توقع ينتهي إلى أن هذا الانسداد لن يفعل فعله إلا مع عناصر "الجماعة" و"الجهاد"، في حين أن أثره قد يكون أقوى على غيرهم ممن لم يختبروا العنف من قبل وممن هم أصغر سناً وأكثر قدرة على التحمل وأوفر اتصالاً بالأجيال الجديدة في الداخل أو بالقوى التي تحمل لواء العنف في الخارج. ولذلك يبدو احتمال العودة إلى العنف ضعيفاً بلا ركائز ثابتة ولا مجادلات قوية، فضلاً عن أنه لا يقدم إجابات شافية على أسئلة لا يمكن الحديث عن سيناريو قابل للتحقق ما بقيت معلقة في الهواء، ومنها مثلاً، السؤال عن كيفية استعادة "الجماعة" و"الجهاد" قدرتيهما التنظيميتين العاليتين اللتين فقداهما، وإعادة بناء الركائز الاجتماعية اللازمة لتغذية أي تنظيم يدخل في صدام مباشر وعنيف مع أجهزة الدولة. لكن إذا صح أن هاتين الجماعتين لن تعودا إلى العنف، فأي طريق تسلكانه في الفترة القادمة؟ الإجابة الأولى المحتملة هي الاتجاه صوب العمل السياسي. وهذا سيناريو ممكن نظرياً، وهو ينطوي على مشاهد متعددة قد يكون بعضها بديلاً عن الآخر، وربما يكون بعضها مكملاً لبعضها الآخر، لأن للعمل السياسي بطابعه آفاقاً واسعة حتى عندما تكون حدود ممارسته ضيقة، في ظل نظام حكم غير مؤهل ذهنياً ولا هيكليا للتنافس المفتوح. ومع ذلك لا يبدو أن مشهد تأسيس حزب سياسي لأي من "الجماعة" أو "الجهاد"، في صورتيهما الجديدتين، هو من المشاهد المحتملة في ظل هذا السيناريو. فلا نظام الحكم يمكن أن يسمح بذلك في المدى المنظور على الأقل، ولا حالة المراجعين (تكوينهم الذهني والنفسي وطبيعة تجربتهم وخبرتهم ونوع توجههم نحو الآخرين)، تجعل خيار تكوين حزب سياسي بين أولوياتهم. وهذا يفسر رد الفعل الحاد الذي صدر من بعض قادة "الجماعة الإسلامية" على إعلان منتصر الزيات (محاميهم وغيرهم من جماعات الإسلام الراديكالي) في الأسبوع الماضي عزمه تأسيس حزب يضمهم، إذ استنكروا أن يتحدث باسمهم، وقالوا ما يفيد إنهم لا ينوون دخول حلبة العمل الحزبي. ومع ذلك لا يمكن استبعاد ذلك في المدى غير المنظور، على أساس أن الوضع العام في مصر يتجه نحو مجهول أكثر منه معلوما بعد بضع سنوات. ومع ذلك قد لا يخلو هذا السيناريو من مشاهد مثيرة، لكنها ليست مؤثرة في الواقع. ومن هذه المشاهد، مثلاً، ما يمكن أن يكون تطويراً لمشروع مشهد لم يكتمل حين أراد الزعيم الروحي لتنظيم "الجهاد" والمسجون حتى الآن عبود الزمر، خوض الانتخابات الرئاسية عام 2005. لكن مادام "الفيتو" السابق على الانتخابات قد أُسقط، ولم يعد هناك ما يحرّم المشاركة فيها، أو يجعلها في تناقض مع الشرع، فقد يفكر بعض "قادة" التنظيمين وكوادرهما في خوض انتخابات برلمانية أو محلية إذا توفرت لأحدهم أو بعضهم أرضية للانطلاق منها في دائرة انتخابية أو أخرى. وأحد المشاهد التي قد تكون محتملة، في إطار هذا السيناريو وفي حالة بناء علاقة تعاون مع الدولة، هو أن يتلقى بعض قادة التنظيمين وكوادرهما تشجيعاً رسميا للمشاركة في الانتخابات البرلمانية القادمة عام 2010 لإيجاد صوت إسلامي بديل عن "الإخوان المسلمين" في الفصل التشريعي المقبل. ويرتبط ذلك بما يجوز اعتباره سيناريو قائماً بذاته وهو لجوء الدولة إلى استخدام المراجعين ومراجعاتهم ضمن معركتها المفتوحة المرشحة للتصاعد ضد "الإخوان المسلمين". ولهذا السيناريو أساس نظري يُعتد به، لأن استخدام قوى سياسية، أو غير سياسية، لضرب قوى أخرى، يعتبر أسلوباً معتمداً من أساليب النظام السياسي المصري منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي لجأ إلى توسيع دور الأزهر في مواجهة "الإخوان"، وفى عهد الرئيس أنور السادات الذي استخدم "الإخوان" وجماعات إسلامية أخرى لضرب اليسار الناصري والماركسي. كما لم يكن نظام مبارك بعيداً تماماً عن هذا الأسلوب عندما سمح بصعود دور "الإخوان" السياسي في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حين شكلوا مع "حزب العمل" المعارضة البرلمانية الرئيسية في الوقت الذي تصاعد عنف التنظيمين اللذين يثار السؤال الآن عما إذا كان النظام الذي "لعب" مع "الإخوان" ضمن معركته ضدهما، سيتجه إلى "اللعب" معهما في إطار معركته ضد "الإخوان" في الفترة المقبلة. لكن ثمة سيناريو آخر ربما يكون هو الأقرب إلى طبيعة التنظيمين في حالتهما الجديدة بعد المراجعات التي تعيد "الجماعة الإسلامية" بصفة خاصة إلى أصلها الأول حين نشأت في الأساس (كدعوة إيمانية تربوية إسلامية تهدف إلى هداية الخلق إلى الحق). كما قد يكون هو الأقرب في ظل ما يمكن للدولة أن تسمح للتنظيمين به، إلا إذا اشتدت حاجتها إلى مساعدتهما، أو أحدهما، في معركتها ضد "الإخوان" على نحو يفرض عليها السماح لهما بدور سياسي مباشر. غير أن هذا التوظيف السياسي يمكن أن يتحقق أيضاً في ظل هذا السيناريو، ومن خلال منظمة أو منظمات دعوية قد تأخذ شكل جمعيات دينية تابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية. وربما يكون التوظيف السياسي مغرياً للتنظيمين في صورتيهما الجديدتين أو لأحدهما أو لبعض قادتهما وكوادرهما، إذا لم يكن العمل الدعوي وحده مشبِعاً في وضع يبدو كما لو أنه تشبع بالدعاة من كل لون وصنف واتجاه. أما إذا وجد من سيطرقون باب العمل الدعوي، من بين المراجعين في "الجماعة" و"الجهاد"، ما يكفي للتحقق، فقد يستوعب هذا العمل طاقاتهم كلها.