ثمة شيء يُطبخُ حول العراق. تواردت أنباء عن تدابير أميركية لإسقاط حكومة نوري المالكي، وقد تسقط بالفعل. غير أن هذا السقوط لا يغير المعطيات الجوهرية للحالة العراقية الراهنة. وثمة شيء ربما يُطبخ حول فلسطين, يشمل زيارة وفد الجامعة العربية لإسرائيل، وزيارة وفد مصري رفيع المستوى للولايات المتحدة، فضلاً عن الزيارة المرتقبة لوزيرة الخارجية الأميركية للمنطقة وتدور أساساً حول قضيتي العراق وفلسطين. غير أن هذه اللقاءات لن تغير المعطيات الجوهرية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وبينما تقول بعض المصادر اللبنانية إن ثمة شيئا يُطبخ على نار هادئة حول لبنان، لم يتأكد أي شيء بعد بل ولم تبزغ علامات قوية لقرب حلحلة الأزمة هناك. وبتعبير آخر فالصراعات والحروب في المنطقة آلت إلى الركود على معطياتها الجوهرية. فماذا يمكن أن يتحول في حالة المنطقة التي تُغلى أو تُشوى في نيران حروب متعددة؟ ثمة ثلاثة مصادر للتحول في بنية المنطقة، بصراعاتها وتفاعلاتها المعقدة. الأول هو سياسات الدول الكبرى، وبصورة محددة الولايات المتحدة الأميركية، في المنطقة. وثمة رهانات فكرية كبرى على هذا المصدر. فالمجتمع الأميركي يكاد يستقر على ضرورة إحداث تحول كبير في شكل الاشتباك الأميركي مع الواقع العراقي. ورغم أن الرئيس الأميركي لا يزال مصراً على مواصلة مشروعه في العراق، فلا شك في تقديري أنه سيضطر للقبول بما صار من المسلمات في الداخل الأميركي وهو تغيير شكْلِ التدخل في العراق بما يشمل سحب جانب كبير من القوات الأميركية هناك. وأرجح أن تتم برمجة الانسحاب أو إعادة الانتشار في حدود الربيع المقبل وقبل أن تكتسب الانتخابات الرئاسية زخماً كبيراً أو تتبلور بصورة كاملة. إن تمت هذه الخطوة، فالأرجح أن تتدفق متغيرات كثيرة على الساحة العراقية. غير أني أشك كثيراً في أنها ستضع نهاية لمحنة العراق في الأمد المنظور. فالحرب الأهلية مؤكدةٌ. وقد تطول كثيراً لأن التدخل الإقليمي سيكون مؤكداً بدوره. وقد يتبلور نمط عجيب من التدخلات الإقليمية التي تضاعف ولا تخفض التعقيد الكامن في الحالة العراقية. فالتدخل الإيراني قد يكون دفاعياً أو هجومياً، وقد يستدعي مواقف متشددة من جانب السعودية ومصر والأردن, ويرَجحُ أيضاً أن تدخل إسرائيل على الخط. ومن المرجح كذلك أن ينتقل هذا التعقيد من الساحة العراقية إلى الساحة الإقليمية بما يشعل مزيداً من الصراعات العربية. وفي كل الأحوال سيكون من الصعب للغاية أن يتم حسم الصراع داخل العراق في الأمد المنظور، وإن كان من المتصور أن يتخذ مسارات متعرجة أو ينتقل بين محطات متعددة لكل منها تفاعلاتها الخاصة. ويمكننا أن نقول الشيء نفسه بالنسبة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي والصراع في لبنان. ولذلك يراهن بعضهم لا على التغيير المتوقع في السياسات الدولية، بل على التغيير المحتمل في التكوين السياسي للدول الرئيسية في المنطقة. وأغلب التوقعات في هذا الصدد تقترب من النبوءات الأيديولوجية منها إلى المعطيات الواقعية: الإسلاميون يتوقعون انتصار تيارهم السياسي, والليبراليون يدفعون بشدة في اتجاه الواقعية والتطور الدستوري التدريجي الذي لا يسلم السلطة للإسلاميين أو غيرهم ممن يصفونه بالشمولية. وبعضهم يتوقع أو يتمنى "ثورة شعبية" مضادة في إيران، بينما يتوقع بعضهم الآخر أو يتمنى أن تنبثق انتفاضات أو ثورات شعبية في الأقطار العربية المحافظة. وجميع هذه التوقعات أو الآماني لا تعدنا بشيء من الاستقرار الإقليمي. فحتى إذا سقط النظام الخُميني في إيران، فسوف ينشأ نظام موال للغرب، وهو ما يقلب التوازنات لصالح إسرائيل بدرجة أكبر. وإذا تصورنا وصول الإسلاميين للسلطة في أكثر من بلد عربي، فالأرجح أن النزاعات لن تقل بل قد تزداد اشتعالا. وأخيراً, يراهن بعضهم على التحول في بنية العلاقة بين سياسات الدول الكبيرة في المنطقة من ناحية والسياسات الدولية، والأميركية تحديداً، من ناحية أخرى. يمكن أن يتخذ التحول مسارين متناقضين. فهناك سيناريو "الحسم الصراعي", كأن تقوم الولايات المتحدة وإسرائيل بضرب إيران عسكرياً وهو ما يضعف كثيراً حلفاءها المحليين وخاصة "حزب الله" والتيارات الإسلامية المتشددة. ويعول أغلب المحافظين العرب على هذا السيناريو. غير أن المعطيات الواقعية تقول بأن ضرب إيران قد يسبب قدراً أكبر من عدم الاستقرار، على الأقل في المدى المنظور. فمن المؤكد أن تسعى إيران للانتقام من بعض الدول العربية في الخليج, كما قد تضاعف من اشتعال الحرب الأهلية في العراق ولبنان. ماذا عن السيناريو المناقض؟ مثلاً: تعقد الولايات المتحدة والغرب "صفقة" مع إيران تشمل إعادة دمجها في النظام الدولي والتسامح مع جوانب أساسية من برنامجها النووي، مقابل أن تقوم بدور ملموس في ضمان الاستقرار الإقليمي. نتصور أن هذا السيناريو يجفف بعض منابع التوتر وقد يخفض مستوى الصراع الأهلي والأزمات المحلية والدولية التي تعصف بالمنطقة. غير أنه يعاني من عيوب جوهرية. فهو لا يضع الدول العربية الكبيرة في الاعتبار, ويمنح إيران بالضرورة دوراً أكبر في سياسات الإقليم على حساب بعض المصالح العربية الجوهرية. ومن ناحية ثانية فهذا السيناريو لا يضمن العدالة، وخاصة فيما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف. وقد يصل في أسوأ صوره إلى بناء نظام ثنائي للهيمنة الإقليمية يقوم على كل من إيران وإسرائيل، ما يجعل النظام العربي نسياً منسياً. ومع ذلك فليس من المستحيل، بل ولا من الصعب أو المستبعد، أن تدخل الدول العربية الرئيسية كطرف فاعل في صفقة إقليمية دولية جديدة بما يحقق الحد الأدنى من التوازن. وفقاً لهذا السيناريو الأخير قد يحصل العرب على فرصة استثنائية لإحداث تحول كبير ومخطط في بنية سياساتهم المحلية من خلال معادلات مناسبة للتعايش الديمقراطي بين مختلف الفرقاء. فالتعايش والوفاق على المستوى الدولي والاقليمي الكلي يعزز فرص التعايش على المستوى المحلي, ويمكن أن يمنح الدولة العربية حيزاً مناسباً جداً للتطور السلمي في اتجاه حكم القانون والتدرج في تطبيق الديمقراطية الحقة أو الكاملة. ويمكننا نظرياً أن نتصور قيام عدة دول عربية بإبداع صيغة للتعايش الديمقراطي, ثم تحرك عملية التفاوض من أجل وضع صيغة للتعايش على المستوى الاقليمي والدولي. ولا يعيق هذا السيناريو سوى سوء صياغة الاستراتيجيات السياسية العربية وافتقار الزعامات العربية لقدر كاف من الشجاعة والخيال وحس المبادرة الخلاقة