يبدو أن "توني بلير" الذي ذاق مرارة الإخفاق في الحرب على العراق، لم تقعده تجاربه السابقة عن متابعة طموحاته والجري وراء إنجازات أخرى. فبعدما فقد "بلير" التأييد الشعبي واضطر إلى التنحي عن منصبه كرئيس للوزراء بسبب انخراطه في حرب صعبة ضد بلد عربي، يجد نفسه اليوم بصدد التعامل مع مشكلة أخرى مستعصية في الأراضي الفلسطينية الجدباء بكل من قطاع غزة والضفة الغربية. والواقع أن المشكلة الحقيقية، تكمن فيما إذا كان الفلسطينيون أنفسهم قد أضاعوا فرصة أخرى لتأهيل أراضيهم لتصبح نواة دولة مستقلة تجمعها علاقات ودية مع جارتها الكبرى إسرائيل، لا سيما وأن التوصل إلى تسوية سلمية للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، قد يكون المفتاح لحل العديد من المشكلات التي تموج بها منطقة الشرق الأوسط. لكن إسرائيل من جهتها، لا تستطيع القبول بدولة مجاورة تعيش على تخومها وفي الوقت نفسه تناصبها العداء وتسعى إلى تدميرها كما تعهدت حركة "حماس" الإسلامية العمل على تحقيقه من خلال جناحها العسكري، بعدما سيطرت على قطاع غزة في الشهر الماضي. فميثاقها واضح في الدعوة إلى القضاء على إسرائيل و"رفع راية الله فوق كل جزء من أرض فلسطين"، في سعيها إلى إقامة دولة إسلامية ليس فقط في غزة، بل أيضاً في الضفة الغربية الواقعة تحت إدارة رئيس السلطة الفلسطينية المعتدل "محمود عباس"، الذي يحظى بقبول من إسرائيل والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي. ولعل ما يعقد الوضع أكثر ويصعب من عملية التوصل إلى حل هو أن "حماس"، التي يمارس جناحها العسكري أعمالاً إرهابية ويتلقى الدعم من إيران، استطاعت الفوز في الانتخابات التشريعية الفلسطينية خلال العام الماضي واكتسحت البرلمان بحصولها على أغلبية المقاعد. ويرجع نجاح "حماس" إلى قدرتها على استمالة الرأي العام الفلسطيني من خلال الخدمات الاجتماعية، التي كانت توفرها لشرائح واسعة من المجتمع، بينما غرقت حركة "فتح"، التي تسلمت الشعلة من الرئيس الراحل "ياسر عرفات"، في الترهل والفساد وانعدام الكفاءة في تسيير الشأن العام الفلسطيني. وفي خضم هذا الوضع السياسي بالغ التعقيد، يدلف رئيس الوزراء البريطاني المستقيل "توني بلير" كمبعوث اللجنة الرباعية الدولية التي تضم إلى جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كلا من الأمم المتحدة وروسيا في محاولة منه لإعادة النظام والاستقرار إلى منطقة ملتهبة. ورغم التفويض الذي حصل عليه من اللجنة الرباعية للاضطلاع بمهامه، فإنه واعٍ بحجم التحديات التي ستواجهه، لا سيما في ظل العلاقة الوثيقة التي جمعته بالرئيس بوش وانخراطه في الحرب على العراق، ما قد يؤدي إلى عرقلة مهمته والتقليل من فاعليتها لدى الأطراف العربية. وقد عبر عن هذا الرأي المتشكك في "بلير" المتحدث باسم حركة "حماس" "غازي حمد"، الذي قال "إن بلير لم يكن نزيهاً ولم يساعد على حل الصراع في الشرق الأوسط". ومع ذلك فإن منتقدي "بلير" قد يكونون بصدد الاستهانة برغبته الصادقة التي لازمته طويلاً في حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، بصرف النظر عن تحالفه مع بوش في الإطاحة بصدام حسين والمشاركة في العمليات العسكرية. فقد كان "بلير" على الدوام يحث الرئيس الأميركي على الانخراط أكثر في عملية السلام بالشرق الأوسط، كما أنه كان مدركاً لحجم المعاناة الإنسانية التي يقاسيها الشعب الفلسطيني. ولا ننسى أيضاً أن مشاركته إلى جانب الولايات المتحدة في الحرب على العراق، كان بسبب إيمانه الراسخ بالحرية كقيمة عليا، ورفضه للاستبداد والديكتاتورية اللتين كان يمثلهما صدام حسين. وبالإضافة إلى ذلك يسوق منتقدو "بلير" حجة أخرى تتصل بضعف التفويض الذي حصل عليه من اللجنة الرباعية وعدم فاعليته. ويتساءل هؤلاء كيف يمكن "لبلير" أن ينهض بالأعباء الثقيلة مثل تعزيز البنية التحتية وإنعاش اقتصاد السلطة الفلسطينية وأدائه، بينما تحتفظ الولايات المتحدة بجميع الأوراق لفرض السلام وتحقيق الهدف النهائي في إقامة دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل؟ وهنا مرة أخرى يستهين منتقدو "بلير" بحنكته السياسية وإمكاناته العالية، فضلاً عن مكانته الدولية التي لم تتوفر لأحد من قبله من المبعوثين. فقد كان الرجل الذي أشرف على توقيع اتفاق السلام بين الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا الشمالية وإنهاء عقود من العنف كان الجيش "الجمهوري الأيرلندي" مسؤولاً عنها لا تختلف كثيراً عن العنف في الأراضي الفلسطينية. وقد سارع القادة الغربيون إلى التعبير عن دعمهم لنظام محمود عباس في الضفة الغربية إثر الصراع الداخلي على السلطة الذي مكن "حماس" من السيطرة على قطاع غزة، وتعهدوا بتقديم الدعم المالي والسياسي للمعتدلين. كما وافقت إسرائيل على فتح خزائنها والإفراج عن حوالي 600 مليون دولار من مستحقات الضرائب التي كانت تحتجزها، لكن إغداق الدعم على محمود عباس وحركته يوقع المجتمع الدولي في مأزق حقيقي، إذ ستسارع الحركات الإسلامية وآلتها الدعائية في الشرق الأوسط إلى نعت المعتدلين "بالخونة" واتهامهم بالتخلي عن القضية الفلسطينية، ناهيك طبعاً عن الدعم الذي تتلقاه "حماس" من إيران والمقدر بحوالي 20 إلى 30 مليون دولار سنوياً. فهل يستطيع "بلير" اجتراح حل ما لصراع مستعصٍ دام عدة عقود؟ قد لا نستطيع الرد بجواب قاطع، لكن المؤكد أن "بلير" سيبذل قصارى جهده للنهوض بمهامه الجديدة. جون هيوز مساعد وزير الخارجية في إدارة الرئيس ريجان ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"