مضت سنة على الحرب الوحشية التي دمرت نصف لبنان، وهي الحرب التي لم تنتصر فيها إسرائيل، كما لم ينتصر "حزب الله" الذي خاض المواجهة متجاهلاً الدولة اللبنانية والحكومة التي كان شريكاً فيها. وأصبح معلوماً، بعد أكوام الكلام، والتحليلات، إن عدم الانتصار الإسرائيلي كان بمثابة هزيمة، أما عدم هزيمة "حزب الله"، فاعتبر أقرب إلى النصر، ولعل هذه الحصيلة الملتبسة هي التي ساهمت في المحافظة على وجود الطرفين: لم تسقط حكومة إيهود أولمرت، ولم ينزع سلاح "حزب الله". في إسرائيل كانت هناك محاسبة أولية، ولا تزال هناك استحقاقات لاحقة، لكن بات مؤكداً أن الحليفين الأميركي والإسرائيلي قررا الإبقاء على حكومة أولمرت مهما بلغت درجة المسؤولية التي ستحملها إياها "لجنة فينوغراد"، بمعنى أن تلك الحرب لا تعتبر بحكم المنتهية، لذا يفترض المحافظة على القيادة السياسية لاستكمالها متى تتاح الفرصة، ويمكن في هذه الأثناء تغيير المنفذين العسكريين تصويباً للأداء. أما في لبنان، فبدت المحاسبة مستحيلة، وتحسباً لأي مفاجأة في اتجاه المساءلة، انتقل "حزب الله" من موقع من تجب محاسبته إلى موقع من يحاسب الحكومة ويطلب إسقاطها ويخوّن رئيسها وأعضاءها وحلفاءها، متسبباً بالشلل والتعطيل لمؤسسات الدولة وبانهيار مبرمج للاقتصاد. كان مفهوماً أن تلك الحرب، شكلت معركة أولى في المواجهة الأميركية- الإيرانية، بمشاركة إسرائيلية (بالوكالة، وبالإحالة) ومشاركة سورية غير مباشرة، ولأن النتيجة ظلت مبهمة، فلا أحد اهتم للضحايا والدمار، اكتفى كل طرف بما حققه قبل وقف إطلاق النار: الجانب الإيراني- السوري أثبت أنه يستطيع أن يوجع وأن يفاجئ العدو، والجانب الأميركي- الإسرائيلي حصل على قرار دولي يقنن تحرك "حزب الله"، ويحدد مهمات للحكومة اللبنانية بينها نزع سلاح هذا الحزب كما يضع حاجز قوات دولية بينه وبين إسرائيل. في الوقت نفسه، كانت المواجهة الكبرى ولا تزال مشتعلة في العراق، استوجب تعزيز القوات الأميركية تمهيداً لعملية "الاندفاع" فيما بذلت جهود لإطلاق حوار أميركي- إيراني يهدف إلى إنجاح هذا "الاندفاع" أكثر مما يسعى إلى تلطيف المواجهة وبالتالي إلى إنهائها. وبالتوازي غازلت إسرائيل فكرة التحاور مع سوريا الراغبة في تنشيط مسارات التسوية، لكنها لم تقدم أي مبادرة وإنما أبرزت لائحة مطالب وشروط. لكن الهوس الأميركي- الإسرائيلي بفك التحالف الإيراني- السوري، زاد تمسك هذين الطرفين بحلفهما كورقة رابحة، وإلا لما طالب العدو بها، ثم أنهما زادا إلى الوضع تعقيداً جديداً تمثل في انقلاب "حماس" على السلطة الفلسطينية وسيطرتها على غزة. صحيح أن الأميركيين أنجزوا بعض التغيير في تكتيكاتهم داخل العراق، لكنهم غير متأكدين بعد مما إذا كان تفاهمهم مع بعض السنة سيهدئ الوضع الأمني. ثم إن إقرار المحكمة الدولية لقتلة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، شكل نقطة سياسية لأميركا ضد سوريا، إلا أن دمشق لا تزال متمتعة بقدرة على الحركة في لبنان، قد تمكنها من تعطيل المحكمة عبر تعطيل الدولة اللبنانية وتفكيكها، بدليل هذا التوريط المفتعل للجيش اللبناني في صراع دموي قاس مع عصابة إرهابية من النوع الذي بات معروفاً في العراق وينتمي- أو هو مرشح للانتماء لــ "القاعدة"، تماماً كتلك العصابة الفلسطينية التي اكتسبت "شرعيتها" النضالية بخطف مراسل الـ"بي. بي. سي" في غزة. ولعل اضطرار عصابة "دغمتس" بضغط من "حماس"، يشبه اضطرار عصابات مماثلة لتقديم بعض التنازلات للعشائر في مناطق عراقية. هذا الوضع المتداخل والمترابط، بات يربك طرفي المواجهة، وإذ قدم المشهد العراقي ويقدم أقصى ما يستطيعه للحفاظ على معادلة التوريط والتورط، فإن الساحتين اللبنانية والفلسطينية لاتزالان مرشحتين للتصعيد خدمة للطرفين نفسيهما، وسط تعطش أميركي- إسرائيلي لإحراز تغيير، في الصور ة، لذا يسود مناخ ترقب لمواجهة جديدة، ولذا تكثر السيناريوهات. لكن المؤكد، في كل الأحوال، أن هناك قاسماً مشتركاً يلتقي عليه الأميركيون والإسرائيليون والإيرانيون والسوريون، وهو أنهم لا يأبهون للعراقيين واللبنانيين والفلسطينيين ولا لأرواحهم وأرضهم ومستقبلهم، وإنما يهتمون بإدارة اللعبة الجهنمية بين من يريد استكمال السيطرة على المنطقة وبين من يريد أن يعرف منذ الآن موقعه بعد هذه السيطرة، أو يستمر في اختراقها وممانعتها، أما العرب، وهذه منطقتهم، فنجحوا في أن يكونوا عنصراً مغيباً ومنسياً تماماً، أو أداة في هذا الصراع المفتوح.