إيطاليا، ذلك البلد العريق في جنوب القارة الأوروبية، والذي توجد داخل أراضيه دولتان مستقلتان (الفاتيكان وسان مارينو)... ليست دولة عظمى تملك من مقومات التأثير والنفوذ ما يكفي لجر الآخرين وراء سياساتها، وهي ليست عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي (على عكس شقيقتيها الأوروبيتين؛ فرنسا وبريطانيا). لكن إيطاليا- رغم ذلك- لها مكانتها الدولية المحسوسة، فهي عضو مؤسس في الاتحاد الأوروبي، وإحدى الدول الصناعية الثماني الكبرى، وهي خامس أكبر قوة اقتصادية على مستوى العالم. وعلى ضوء ذلك تتحدد أهمية الزيارة التي يؤديها رئيس الوزراء الإيطالي "رومانو برودي"، منذ أمس إلى إسرائيل، بهدف طمأنة الدولة العبرية إلى أنها تحظى بدعم إيطاليا والاتحاد الأوروبي في مواجهة "النووي" الإيراني والعمليات الفلسطينية، كما أُعلن في روما قبل يومين. وإضافة إلى الملفين أعلاه، يناقش برودي ونظيره الإسرائيلي "إيهود أولمرت"، الدور الذي يضطلع به الجنود الإيطاليون في قوة "اليونيفيل"، وهو دور يحظى بتقدير إسرائيلي، فضلاً عن "النفوذ السوري في لبنان"، كما سيزور مستوطنة سيديروت "تأكيداً على تضامن إيطاليا وصداقتها للإسرائيليين"، وبعدها سيتوجه إلى رام الله للقاء الرئيس محمود عباس، ثم يتفقد مخيماً فلسطينياً قرب بيت لحم "لإظهار احترامه لمعاناة الشعب الفلسطيني". زيارة برودي إلى إسرائيل هي الأولى منذ تسلمه رئاسة الوزراء في مايو 2006، اثر معركة انتخابية ساخنة أوصلته مجدداً إلى المنصب الذي غادره قبل ثماني سنوات. فمن هو رومانو برودي؟ وهل لزيارته الحالية أن تحرك عملية السلام، أو تثبت التهدئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ ولد رومانو برودي عام 1939 في "سكانديانو" بوسط شمال إيطاليا الغني، وهناك تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي، والتحق بالجامعة الكاثوليكية في ميلانو، ثم بكلية لندن للاقتصاد حيث حصل منها على شهادة الدكتوراه، وعاد ليصبح أستاذاً في جامعة بولونيا وأستاذاً زائراً بجامعة هارفارد الأميركية. زاوج برودي بين عمله الأكاديمي ونشاطه السياسي بنجاح غير قليل، وكان عضواً في "الحزب الديمقراطي المسيحي"، وانضم الى حكومة "جيوليو اندريوتي" كوزير للصناعة في الفترة بين نوفمبر 1978 ومارس 1979. حافظ برودي على موقعه كأكاديمي متميز، فعمل بداية من عام 1982 رئيساً لمجلس إدارة "معهد إعادة البناء الصناعي" الحكومي، ثم تركه عام 1990 لصالح التدريس في جامعة بولونيا، قبل أن يعود إليه مجدداً عام 1994، حيث قدم برنامجاً للتخصيص ولإعادة بناء القطاع الصناعي الحكومي. سعى برودي إلى تشكيل تحالف لقوى اليسار، فقاد تجمع "تحالف شجرة الزيتون" إلى نصر تاريخي، وإن بفارق ضئيل، في الانتخابات التشريعية عام 1996، ليصبح أول رئيس وزراء يساري في تاريخ إيطاليا. ركز برودي حينئذ كل جهوده على تهيئة الاقتصاد الإيطالي للوفاء بشروط العضوية في مشروع الوحدة النقدية الأوروبية؛ فوضع "ميزانية شد الأحزمة على البطون"، ثم صمم خطة ثلاثية للتجاوب مع المشروع الذي قرر في عام 1997 قبول إيطاليا عضواً فيه. لكن برودي قدم استقالته من رئاسة الحكومة في أكتوبر 1998، بسبب انسحاب حلفائه الشيوعيين الذين عارضوا سياسته الاقتصادية، لاسيما "التكلفة الاجتماعية الباهظة" للاندماج في العملة الأوروبية الموحدة. وبعد نحو خمسة أشهر فقط، انتخب برودي رئيساً للمفوضية الأوروبية (الهيئة التنفيذية للاتحاد الأوروبي)، فعمل على تنظيف سمعتها من آثار فضيحة الفساد التي أطاحت بسلفه "جاك سانتير"، كما أعلن خططاً لإصلاح الاتحاد، بما في ذلك توسيعه، ثم دعا إلى حوارات حول مستقبل الاتحاد، وإلى توثيق العلاقة بين مؤسساته والرأي العام. وبعد انتهاء ولايته على رأس المفوضية الأوروبية عام 2004، عاد برودي لينخرط في السياسة المحلية الإيطالية، وأسس في أكتوبر 2005 تحالفاً جديداً بقيادته سُميّ "الاتحاد"، وضم أحزاب يسار الوسط المعارضة لحكومة التجمع اليميني "بيت الحرية" بزعامة "سيلفيو برلسكوني"، وذلك تمهيداً للانتخابات النيابية في ابريل 2006، والتي حصل فيها اليسار على 341 مقعداً في مجلس النواب، مقابل 277 مقعداً لليمين. وبذلك أصبح برودي، وهو الزعيم المتوج لليسار الإيطالي، رئيساً لوزراء إيطاليا للمرة الثانية. لكن بموجب الإصلاحات الجديدة، لن يضطر في هذه المرة إلى الاستقالة إذا ما فقد أغلبيته البرلمانية قبل اكتمال ولايته خلال سنوات خمس. بيد أن برودي يواجه تحديات كبيرة، تتعلق بإيجاد حلول للأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية... الموروثة عن حكومة برلسكوني. وقد بدأ يحاول استعادة وجهها الحقيقي لإيطاليا من خلال علاقات دولية متوازنة، بعد أن أمعن برلسكوني في سياسة التحالف مع الولايات المتحدة، وباعد بينها وبين باقي دول الاتحاد الأوروبي، وترك شروخاً في علاقتها بالعالم الإسلامي... وفي هذا الإطار كانت أولى خطوات برودي قراره بسحب قوات بلاده من العراق. ورغم ما يعرف عن اليسار الأوروبي عامة من مواقف مُسانِدَةٍ لإسرائيل، فإن كثيرين تفاجأوا بموقف برودي حين أظهرته لقطات تلفزيونية في ديسمبر الماضي، وهو يتقبل توجيهات من نظيره الإسرائيلي إيهود أولمرت بما يجب أن يقوله خلال مؤتمرهما الصحفي المشترك في روما، حيث صرح فعلاً خلال المؤتمر بما أملى عليه أولمرت حرفياً! لكن إذا كان أولمرت، وهو يميني متشدد، أقرب في الرؤية والأيديولوجيا إلى برلسكوني من خصمه اللدود برودي، إلا أن علاقات الدول تتقدم على علاقات الأفراد وتفوقها، حيث تعدّ علاقات إسرائيل بإيطاليا أرسخ علاقاتها الأوروبية عامة ومن أكثرها أهمية. وفي غياب علاقة مماثلة على الجانب الفلسطيني، لن يكون لقاء برودي للرئيس عباس أكثر من توقف جانبي على طريق العودة من رحلة استكشاف لـ"الجزيرة الأوروبية" في الشرق! والشاهد أن التصريحات السابقة على زيارة "نجم اليسار الإيطالي"، خلت من أي إشارة إلى "السلام" أو حتى "التهدئة"... فلتبقَ الأوضاع المضطربة في المنطقة بعد زيارة برودي، كما كانت قبلها، لا فرق إذن! محمد ولد المنى